الحسكة
أثار إعلان بلدية تتبع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لمشروع دار سينما، هذا الأسبوع، تهكّم ومعارضة سكان ورواد في مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب ما اعتبروه حاجة غير ضرورية في منطقة تعاني من شح الخدمات الأساسية.
وأعلنت بلدية عامودا شمال الحسكة بدءها العمل على إنشاء دار سينما استذكاراً لمأساة حريق وقع قبل أكثر من 60 عاماً، وأودى بحياة عشرات الأطفال من أبناء المدينة.
مشروع دار السينما الجديدة الذي ستشرف هيئة البلديات في الإدارة الذاتية على تنفيذه يمتد على مساحة 1162م2، وتتجاوز تكلفته 346 ألف دولار أميركي.
وللمرة الأولى بالنسبة لمشروع فني ترفيهي في المنطقة، أثار إعلان المباشرة بالتنفيذ تعليقات السكان حول الميزانية المخصصة بالمقارنة مع تردّي حال الخدمات والتدهور الاقتصادي في المنطقة والبلاد عموماً، بينما أثنى آخرون على المشروع واعتبروا أنه سيكون بمثابة مركز ثقافي لأبناء المدينة وأجيالها.
“ميزانية كبيرة”
وتركزت ردود الفعل فور إعلان المشروع على مقارنة ميزانية المشروع الذي تنفذه البلدية، بخدمات أخرى كمشكلة مياه الشرب المستعصية في الحسكة وريفها منذ سيطرة تركيا وفصائل الجيش الوطني الموالية لها على آبار “علّوك” المغذية للمنطقة.
وأشار آخرون لاهتراء الطرق ومشكلات شبكات الصرف الصحي، وذكّر البعض بالوضع الاقتصادي المتدهور والحاجة إلى منشآت تنموية توفّر إنتاجاً محلياً وفرص عمل.
ورأى الصحفي برور ميدي، في منشور على حسابه الشخصي في منصة فيسبوك، أن هذا المشروع ليس ضرورياً في ظل العجز المالي الذي أعلنت عنه الإدارة الذاتية منتصف هذا العام 2023.
وانتقد فهد يوسف، وهو مدرّس في عامودا، موقع المشروع على الحزام الجنوبي في عامودا، معتبراً أن المكان الأنسب لوجود تذكار هو الموقع الأصلي لحادثة الحريق، بالإضافة للمبلغ الكبير المخصص لدار السينما.
وتوجد الآن حديقة صغيرة في موقع سينما “شهرزاد” القديمة، يتوسّطها تمثال معدني قدمه النحات السوري محمود جلال، ويزور السكان وذوو الضحايا المكان في ذكرى الحادثة بالإضافة لمقبرة المدينة.
“ليس من ميزانية الخدمات”
ونقلت قناة روجآفا، وهي التلفزيون الرسمي للإدارة الذاتية، عن المراقبة الفنية في بلدية عامودا قولها إنه لم يكن من الممكن تنفيذ المشروع في الموقع القديم، دون أن توضح التفاصيل.
وقالت نائبة الرئاسة المشاركة لاتحاد البلديات في مقاطعة الجزيرة، بيريفان عمر، للقناة نفسها، إن التمويل من جهات مهتمة بالمجال الفني من خارج البلاد، وهو ليس من ميزانية الإدارة الذاتية للخدمات.
وأضافت أن الجهة المنفذة هي هيئة البلديات للإدارة الذاتية، لكن الأمر ” مختلف تماماً عن مشاريع جر مياه الشرب أو خطوط الصرف الصحي”.
وتقدم بمقترح إنشاء دار السينما “كومين فيلم روجآفا”، وهو بمثابة مؤسسة للسينما في منطقة الإدارة الذاتية، ووافقت عليه هيئة البلديات “بعد نقاشات مطوّلة”، بحسب عمر.
وذكرت إذاعة “آرتا إف إم” المحلية، التي يقع مركزها في عامودا، عن مصادر لم تسمِّها تأكيدات بأن المشروع ممول من “جهات أوروبية”.
وقال مؤيدون للمشروع إنه سيوفر “مركزاً ثقافياً” لأنشطة فنية وثقافية مختلفة لأبناء المدينة، واعتبروا ذلك حاجة مهمة أيضاً، وليس من الصحيح الاستغناء عنها بسبب سوء الخدمات.
ورأى البعض أن النظر لمستوى الخدمات والاحتياجات الأخرى عند إعلان مشروع ثقافي أو ترفيهي، ينتج مقارنة غير منطقية، معتبرين أن المساهمين في المشروع يستحقون الشكر.
ذكرى مؤلمة
وبغض النظر عن الموقف من المشروع الجديد، تحتفظ ذاكرة العائلات في عامودا وسكان الجزيرة السورية بذكريات أليمة عن حريق السينما الذي راح ضحيته أطفالها.
المشروع المعلن هو تذكار لحادثة حريق سينما “شهرزاد” في عامودا قبل 64 عاماً، والتي أودت بحياة 280 طفلاً تقل أعمار غالبيتهم عن 12 عاماً، بحسب الشاعر أحمد نامي مؤلف كتاب “حريق سينما عامودا”.
ويشترك من كتبوا عن الحادثة، ومنهم أحمد نامي ودلاور زنكي وحسن دريعي والشيخ توفيق الحسيني، أن مدير الناحية طلب من مديري المدارس جمع التلاميذ لحضور فيلم في السينما، ليتم إرسال أثمان التذاكر كمساهمة في دعم الثورة الجزائرية ضد الفرنسيين.
وفي 13 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1960، تم إدخال 500 من التلاميذ في صالة عرض لم تكن تتّسع لهذا العدد، وحين اشتعلت النيران في جهاز العرض انتشرت بسرعة في الصالة والكراسي المصنوعة من الخشب والقش ومعها الضحايا.
يتهم بعض ذوي الضحايا الأجهزة الأمنية الحكومية بافتعال الحادث، بينما يعتقد آخرون بأن مسؤولي مديرية الناحية ومديرية التربية والمؤسسات الحكومية الأخرى يتحمّلون المسؤولية عن الإهمال وتعريض الأطفال للمخاطر أياً كانت طبيعة الحريق.
يقول أحمد نامي في كتابه نقلاً عن شاهد: “أنا أعلم حقيقة ما جرى، فصاحب السينما والفني كانا على علم بارتفاع حرارة مولدة الكهرباء، لكنّ مدير الناحية رفض تأجيل العرض وأجبرهما على إعادة العرض 3 مرات”.
ويتحدث كبار السن في المدينة أن مسؤولاً حكومياً زار المدينة عقب الحادثة وقال إن الحريق كان “قضاءً وقدراً”، دون إصدار تقرير رسمي عن أسبابها.
وكانت مدينتا عامودا والقامشلي تضمان بضعة دور للسينما، تم إغلاقها قبل عقود بسبب تراجع الإقبال مع انتشار القنوات الفضائية ثم الإنترنت لاحقاً، بالمقارنة مع تكاليف تشغيلها.
مشاريع معتادة
وعامودا هي إحدى مدن الجزيرة السورية المتنوعة عرقياً ودينياً، والتي تديرها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
وكانت الأنشطة الثقافية المعلنة في عهد الحكومات السورية تقتصر على المركز الثقافي العربي المرتبط بفروع حزب البعث في المنطقة، بينما كان المثقفون الأكراد مجبرين على إخفاء فعاليات مثل “مهرجان الشعر الكردي في سوريا”، لتجنب الملاحقات الأمنية.
واعتمدت الإدارة الذاتية منذ العام 2015 مبدأ التعلم باللغة الأم في مدارسها معتمدة على مناهج عربية وكردية وسريانية أعدّتها لهذا الغرض، بعد زوال الحظر عن اللغة الكردية.
كما أسس الكتاب المحليون عدة اتحادات وروابط ثقافية تهتم بإقامة فعاليات ثقافية وفنية متنوعة، وسط افتتاح مؤسسات ومراكز وأنشطة ثقافية وفنية مثل كومين فيلم روجآفا، ومركز محمد شيخو للثقافة والفن، ومعرض الكتاب السنوي في القامشلي وغيرها.
وفي العام 2016، نشرت وسائل إعلام محلية في شمال شرقي سوريا خبر اتفاق بين بلدية عامودا ومؤسسة فرنسية حول إنشاء مركز ثقافي فرنسي في عامودا.
وفي العام 2018، تم الإعلان عن بدء تنفيذ هيئة الثقافة في الإدارة الذاتية ومؤسسة آسيا الفرنسية لمشروع المركز الذي يضم 4 أبنية.
وقالت الرئيسة المشاركة لهيئة الثقافة في الجزيرة آنذاك، بيريفان خالد لإذاعة آرتا في عامودا، إن المشروع يضم مساحات للمسرح والسينما والفن التشكيلي وغيرها من الفنون، وقاعات للندوات الثقافية وصالة للمعارض.
لكن المشروع توقف مع مشاريع أخرى، دون إعلان رسمي، بعد الهجمات التي شنتها القوات التركية فصائل الجيش الوطني الموالي لها على عفرين عام 2018 ورأس العين وتل أبيض عام 2019 وسيطرتها على تلك المناطق.
وخلصت منصة “True Platform” ، المتخصصة في تقصي الحقائق ورصد ومكافحة خطاب الكراهية، لنتائج حول وجود فكرة لتمويل المشروع من جانب سينمائيين ومسرحيين وصحفيين ألمان قبل حوالي 7 أعوام، كما أشار تقريران لصحيفة فرانكفورتر روندشاو الألمانية نشرتهما عامي 2017 و2018.
وتلخصت نتائج بحث المنصة في أن الإدارة الذاتية لم تموّل المشروع من ميزانيتها، وأن تأخر مسؤوليها في كشف الجهة المموّلة يحمّلها ووسائل الإعلام المقربة منها مسؤولية تضليل المتلقّي.
وتبدو الانتقادات التي طالت مشروع دار السينما في عامودا غير معتادة بالنسبة لمشروع ثقافي وفني وترفيهي، إلا أن التركيز على التكلفة المرتفعة ومقارنتها بالخدمات يشير إلى أن الانتقادات كانت موجهة لتدهور الخدمات أكثر من المشروع نفسه.