كشفت نتائج انتخابات الولايات التي جرت يوم 1 أيلول/ سبتمبر، في كل من ولايتي تورنغن وزاكسن الألمانيتين الشرقيتين، عن مدى انتشار وقوّة اليمين الشعبوي، ممثلاً بحزب البديل من أجل ألمانيا المعروف اختصاراً بـ AFD. فالحزب حلّ في المرتبة الأولى في تورنغن، بحصوله على 32 مقعداً من أصل 88 هي مجموع مقاعد برلمان الولاية، واحتل المركز الثاني في ولاية زاكسن، بفارق طفيف عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي CDU، إذ فاز بـ 40 مقعداً من أصل 120، مقابل 42 للحزب المسيحي، مما أثار تساؤلات جدية بشأن مستقبل اللاجئين والمهاجرين، ليس في الولايات الشرقية فحسب، بل في ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي، مع تنامي نفوذ الأحزاب اليمينية الشعبوية فيها. كان من المصادفات السيئة للاجئين وقوع جريمة الطعن الرهيبة في مدينة زولنغن، قبل حوالي أسبوع من الانتخابات، على يد لاجئ سوري شاب، هاجم بالسكين تجمعاً احتفالياً في المدينة، فقتل ثلاثة أشخاص وأصاب عدداً آخر بجروح خطيرة، فيما أعلن تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي تبنّي الهجوم.
ألقت الحادثة بظلالها على أجواء الحملة الانتخابية، وتتالت تصريحات ممثلي أحزاب السلطة والمعارضة للتنديد بما جرى، والتعهد بتشديد الإجراءات المتعلقة باللجوء والهجرة، فأعلن المستشار الألماني أولاف شولتس عن عزم حكومته تكثيف وتسريع عمليات ترحيل اللاجئين غير المسموح لهم بالإقامة في ألمانيا، وأعلنت وزيرة الداخلية نانسي فيزر إلغاء المساعدات لفئة محددة من طالبي اللجوء، وهم الذين تختص دولة أوروبية أخرى بمباشرة إجراءات لجوئهم وتوافق على استعادتهم، من ضمن حزمة إجراءات جديدة قالت إنها ترمي إلى الحد من الهجرة غير النظامية والحماية من “الإرهاب الإسلاموي”. كما دعا زعيم المعارضة ورئيس الحزب الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس، إلى وقف استقبال طالبي اللجوء القادمين من سوريا وأفغانستان، في إشارة إلى جريمة مماثلة ارتكبها لاجئ أفغاني شاب، قبل نحو شهرين في مدينة مانهايم، حين طعن ستة أشخاص، بينهم شرطي توفي متأثراً بجراحه.
كثيراً ما احتلّت جرائم كهذه موقعاً بارزاً في دعاية اليمين الشعبوي المناهض للأجانب، لكن هذا لا يعني أنها تكفي لتفسّر النجاح الانتخابي الكبير لهذا التيار، بدليل أنّ نتائج استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات والحادثتين المشار إليهما، لم تختلف كثيراً عن النتائج الفعلية للانتخابات. ثمة مشكلات أعمق تتعلق بالاقتصاد خصوصاً، برزت خلال فترة انتشار وباء كورونا، وتفاقمت بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، دفعت بالناخبين الألمان إلى التذمر من الأداء الحكومي، على خلفية القلق من الصعوبات المعيشية وارتفاع الأسعار. وجاءت الأحزاب اليمينية المعارضة لتضع مسألة الهجرة واللاجئين في مقدمة مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية، مستغلةً ازدياد أعداد اللاجئين في ألمانيا بعد عام 2015، وميل قسم من الألمان إلى الاعتقاد بأن سياسات الهجرة واللجوء المتبعة، أثّرت سلباً على نظام الرعاية الاجتماعية والأمن، وحتى على أجور السكن وفرص العمل. وإذ تُضخّم الأحزاب اليمينية من تأثير قضية الهجرة، وتجعل منها رافعة لخطابها السياسي، تعمل في الوقت نفسه على استثارة المشاعر القومية لدى الشارع الألماني، حين تقدم نفسها بوصفها المدافع عن “الهوية الألمانية” و”المجتمع الألماني”، من أجل كسب مزيد من الناخبين.
على الرغم من الفوز الانتخابي الكبير لحزب البديل من أجل ألمانيا AFD، إلا أنه لن يستطيع تشكيل الحكومة في أي من الولايتين منفرداً. ومع صعوبة التوصل إلى تفاهم وعقد تحالفات مع الأحزاب الأخرى، يمكن أن يبقى في موقع المعارض القوي القادر على فرض إرادته في البرلمان وتعطيل عمل الحكومة، نظراً لسيطرته على ثلث المقاعد في زاكسن، وأكثر بقليل في تورنغن، أي “الثلث المعطّل”. وبالتالي، من المتوقّع أن تشهد المرحلة المقبلة سياسات أكثر تشددا تجاه اللاجئين، تشمل قيوداً أكثر صرامة على قبول طلبات اللجوء، وزيادة عمليات الترحيل. ومن غير المستبعد أن يؤدّي الصعود القوي لليمين الشعبوي إلى توتر وعنف بين أنصاره وبين بعض جماعات اليسار، أو بينه وبين مجتمعات اللاجئين والمهاجرين. ومن الواضح أنّ الخطاب السياسي للائتلاف الحاكم أصبح هو الآخر أكثر تشدداً في مسائل اللجوء والهجرة، في محاولة لاستعادة أصوات ناخبيه الذين جنحوا إلى اليمين، فما زال هناك موعد انتخابي حاسم في العام المقبل، هو انتخابات البرلمان الاتحادي (البوندستاغ)، والتي تحدد من يتولى الحكومة الاتحادية للسنوات الأربع التالية.
إنّ صعود الأحزاب اليمينية في ألمانيا يشكّل تحدياً جدياً ليس للاجئين والمهاجرين فحسب، بل للنظام السياسي الديمقراطي الألماني نفسه، والقيم التي تضمنها دستور ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالسياسات المعادية للهجرة والتنوع التي يروج لها اليمين الشعبوي تتناقض مع الدستور، وينبغي على بقية فئات المجتمع الألماني الدفاع عن قيم التعددية والعدالة وحقوق الإنسان، التي بني عليها دستورهم ونظامهم السياسي. من جهة ثانية، فإنه بالرغم من هذا التحول في المشهد السياسي الألماني، الذي يعزز مناخ الخوف والشكوك تجاه المهاجرين واللاجئين، وقد يؤدي إلى زيادة الحوادث العنصرية، إلا أنه يشكّل في الوقت نفسه فرصة تاريخية أمامهم للانخراط بصورة أكبر في المجتمع الألماني وحياته السياسية، لأنهم سيجدون حلفاء وشركاء للعمل معاً في مواجهة خصم مشترك، يزداد خطره يوماً بعد يوم.
اليمين المتطرف ـ ألمانيا ـ برلين ـ اللاجئين