“ليس في الفرات ماء وسمك فحسب.. بل فيه أرواحنا أيضاً”. فعن أي أرواح يتكلم محمد الراضي، أحد سكان بلدة العباس بريف دير الزور الشرقي، غربي نهر الفرات؟
حين اشتدت المعارك في دير الزور شرقي سوريا، ما وجد الناس سبيلاً إلا الفرار من هذا الموت اليومي المقيت، فكان عليهم عبور الفرات بسياراتهم، لعلّهم ينجون في الضفة الأخرى. لحقت بهم قذائف المسلحين، ودفنت الكثيرين منهم في أعماق النهر.
هنا، فقد الراضي طفليه. يروي لـ”963+”: “إنها أيام قهر. أيام ذلّ. أيام خوف. كانت أبشع ليلة في حياتنا، تركت فينا جرحاً لن يندمل. بتنا ليلتنا على أصوات المدافع وقصف الطيران، لا نعلم ماذا يجري خارج منازلنا. كان عناصر ’داعش‘ يسيطرون على منطقتنا، ويمنعون الإنترنت والتلفزيون. حزمنا متاعنا وقررنا الرحيل إلى شرق الفرات، وكانت أكثر أماناً حينها، رغم أنها كانت تخضع أيضاً لسيطرة التنظيم”، المصنّف إرهابياً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية وآسيوية أخرى.
وخاضت قوات سوريا الديموقراطية (قسد) عمليات عسكرية بدعم التحالف الدولي للسيطرة على جيب هجين، الذي كان يعتبر آخر معاقل تنظيم “داعش” في المنطقة الشرقية لسوريا.
وكانت قد حذرت الأمم المتحدة، خلال اشتداد المعارك في هجين عام 2018، من الخطر الذي هدد الآلاف من المدنيين لا سيما النازحين، وقالت في تقرير لها، في 16 من تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، إن نحو ألف مدني معرضون للخطر في منطقة هجين شرقي دير الزور، بينما نزح نحو سبعة آلاف مدني من المنطقة التي تشهد معارك منذ أسابيع.
وركز التقرير الأممي، حينها على العنف المستمر في مناطق هجين والشعفة والباغوز وسويدان، متهمًا “داعش” بالهجوم على مخيم للنازحين في منطقة هجين، وأدى ذلك لاختطاف العديد منهم وإجبار آخرين على النزوح، بحسب التقرير.
رأيت يوم القيامة!
ما أن أشرقت الشمس حتى توجه الراضي وعائلته إلى جسر أبو الحسن الذي يربط مناطق شرق الفرات بغربها للعبور، فوجدوه مدمراً. غيروا الدرب إلى معبر هجين المائي الذي ينقل الناس والسيارات وحتى الحيوانات بعبّارات صغيرة. يقول الراضي: “كانت عبّارات خطرة، لكنها أقل خطراً من القذائف والصواريخ التي نالت منها مدينة العباس حصة كبيرة. كنا ندفع ثمناً باهظاً لحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل”.
في المعبر المائي في هجين، وقف الراضي خلف مئات السيارات ينتظر دوره للعبور إلى شرق الفرات، وكله أمل في الخروج من مناطق “داعش”.
كانت العبارات المائية تعمل سريعاً، وعبر عدد كبير من الآليات، “وفجأة، وصل عناصر التنظيم، وبدأوا يستخدمون العبارات لنقل سياراتهم وعائلاتهم وأسلحتهم إلى الضفة الثانية، فدام انتظارنا في هذا الطابور 3 أيام بلياليها، لا نتقدم، ولا يسعنا الخروج من الطابور والعودة إلى البيت”، كما يروي الراضي… “حتى كانت ساعة التخلي”.
ترك الراضي زوجة وأربعة أطفال هنينهات وقصد متجراً قريباً يطلب لهم طعاماً وشراباً. كان يوم 17 أكتوبر 2017، في تمام التاسعة مساءً. لم يبتعد كثيراً حتى امتلأت السماء بالمقاتلات تزأر في السماء وتقصف المعبر بوحشية. “أظنني رأيت يوم القيامة بعيني هاتين”، يقولها باكياً ومسترجعاً صور الجثث والأشلاء، وأنين الجرحى، وبكاء الأطفال، ورائحة النار، وهو يرى الابن يفر من أبيه، والأم تفر من أولادها. وبعد بحث طال ساعة، وجد زوجته حيةً ترزق، تنوح وتبكي: “نجا أسامة وعبد، ومات محمد وأحمد”، ولم يكونا قد تجاوز 10 أعوام.
ماتوا كلهم
عبرت الزوجة والطفلان، بينما عاد الراضي لدفن طفليه. اليوم، يقيم مع من بقي له في خيمة بأحد مخيمات محيميدة بريف دير الزور الغربي الخاضعة لسيطرة “قسد”. يذهب بين الفينة والأخرى إلى معبر هجين، لينظر إلى ما تبقى من سيارات محروقة لم يعد أصحابها إليها، ويجلس باكياً طفليه ساعات وساعات.
شهد سوادي العلي، وهو أحد سكان مدينة هجين، القصف على المعبر في ذلك اليوم، فيقول لـ”963+”: “كان عدد القتلى كبيراً جداً، وتجاوز عدد الجرحى 800 جريح. كان يمكن إنقاذ عدد من الجرحى الآخرين، لكن افتقارنا إلى الأطباء أدى إلى موتهم”.
يضيف: “وضعنا جثامين الضحايا على الرصيف المقابل لمسجد البلدة، ليتمكن ذووهم أو أي شخص من التعرف عليهم. لكن ملامح كثيرين منهم اختفت بسبب الحروق”. بقي عدد كبير من الجثامين طوال الليل من دون أن يتعرف عليهم أحد، فربما لقي أفراد العائلة حتفهم في ذلك القصف، فتولى العلي وشبان البلدة إكرامهم بدفنهم.
وبحسب إحصائية لمنظمة “إنصاف”، بلغ عدد الضحايا الذين قتلوا أثناء محاولة العبور 1324 شخصاً، أغلبيتهم من النساء والأطفال، إضافة إلى إصابة أكثر من 2100 شخص، منهم 180 فقدوا أجزاء من أجسامهم، أو شلّوا تماماً.
تفاصيل ومآسٍ
يوثق الناشط المدني صالح الصالح انتهاكات الحرب في دير الزور، ويروي تفاصيل دموية عن محاولات الفرار من المعارك في المنطقة. يقول لـ”963+”: “بعد تعرض الجسور بين غرب الفرات وشرقه للقصف، وتعرض غرب الفرات الواقع تحت سيطرة ’داعش‘ لقصف عشوائي من القوات الحكومية السورية، قرر السكان المغادرة بشكل مفاجئ، وهذا خلق أزمة كبيرة على المعابر”.
ويضيف: “قصفت الطائرات الروسية هذه المعابر المائية التي لجأ إليها الناس هرباً من غرب الفرات إلى ضفته الشرقية، فسقط عدد كبير من المدنيين على معابر هجين العباس والسيال أبو الحسن والعشارة درنج، وغيرها في الريف الغربي لدير الزور”.
من بقي حياً، يعيش اليوم ظروفاً مأساوية بسبب الفقر، وعدم توفر الدعم. يقول الصالح: “ثمة وجه آخر للمأساة، غير الموت، وهو موت اجتماعي. فقد أجبرت عائلات كثيرة على ترك سياراتها وفيها مستندات هويات أفرادها في الضفة الأخرى أثناء فرارهم من الغارات في ذلك اليوم. وهو يعانون الآن مشكلات إدارية وقانونية، ويعيشون بلا أوراق ثبوتية، فلا يحصلون على أي مساعدة في مخيمات النزوح”.
وخلّفت آلات الحرب نسبة دمار تقدر ب٥٥%, استهدفت البنى التحتية والمؤسسات والمنازل، ونتج عن ذلك 400 ألف متر مكعب من الركام الذي ملأ الشوارع الرئيسة والفرعية في المدينة، بحسب تقارير صحفية.
شعور بالذنب والحسرة
يناشد الناشطون المدنيون المجتمع الدولي تقديم الدعم والمساعدات اللازمة لهؤلاء الناجين والعوائل المتضررة، سواء المادي أو النفسي، أو توفير المأوى والمساعدة في تعويضهم ممتلكاتهم التي فقدوها، “فمشاهد فقدان المقربين بهذه الطريقة المفاجئة والعنيفة تؤدي إلى ظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأشخاص الناجين”، بحسب ما يقول عواد الشجيف، وهو مرشد اجتماعي ونفسي من دير الزور، مؤكداً أن الناجين يعانون من كوابيس متكررة وصعوبات في النوم، إضافة إلى انفصال عاطفي وحالات من الخوف والقلق المفرط.
ويضيف لـ”963+”: “الإحساس العام بين هؤلاء هو شعور بالذنب والحسرة الشديدين على فقدان الأحبة”، وهذه تداعيات نفسية تؤثر بشكل كبير على قدرة اللاجئين على التكيف مع الواقع الجديد والاستمرار في حياتهم اليومية، “لذا يجدون صعوبة في التركيز والانخراط في الأنشطة المعتادة، ما يؤثر سلباً في مسيرتهم التعليمية أو المهنية، وحتى في تفاصيل حياتهم اليومية”.
استعادة الأمل
لا شك في أن معالجة التداعيات النفسية للمرور بهذه المأساة أمر بالغ الأهمية، تتطلب توفير الدعم النفسي والاجتماعي الملائم للناجين، وتقديم جلسات علاج نفسي فردي أو جماعي لمساعدتهم على التعامل مع الصدمة والحزن.
ويقول الشجيف: “يجب تنظيم ورش عمل وأنشطة جماعية لتعزيز الدعم الاجتماعي للناجين، إضافة إلى تقديم مساعدات مادية وخدمات أساسية للأسر المتضررة لتخفيف الضغط المعيشي، وإشراك المجتمع المحلي في برامج التضامن والتعافي النفسي للناجين”، فالدعم المجتمعي يؤدي دورًا حيويًا في تعزيز القدرة على التعافي.
وفي الختام يشدد الشجيف على أن لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي الشامل “أثراً كبيراً في مساعدة الناجين على التعافي من هذه الحادثة المؤلمة والعودة إلى حياتهم بشكل طبيعي قدر الإمكان، بالعمل الجماعي وتقديم الدعم الضروري، وهنا تبدأ مسيرة استعادة الأمل ورحلة التعافي”.
دير الزور ـ هجين ـ قسد ـ قوات سوريا الديمقراطية ـ سوريا ـ النازحين ـ الحرب