خاص- حلب
يرقد عمر الحسن في مشفى الطب العربي في حي شارع النيل بمدينة حلب السورية، بعدما سقط من الطبقة الثانية في بناء قيد التشييد في حي منيان بغرب حلب. كان يركّب ألواحاً خشبية لزوم صب الإسمنت، كما يروي، “وفجأة سقطت من المهواة (بئر المصعد) ولا أذكر من الحادثة إلا أن الحرارة كانت مرتفعة جداً، فاختل توازني وسقطت”.
يضيف الحسن لـ”963+” والدمعة في عينه: “انكسر ضلعي وفقرتان في ظهري، واضطر الأطباء لاستئصال جزء من الكبد، وصرت عاجزاً عن العمل… والأسوأ من هذا كله سوء معاملة فرع التأمينات الاجتماعية لزوجتي التي سئمت المراجعة للحصول على تعويض”.
المنشار!
بلوعة وحزن، يصف الحسن دائرة التأمينات الاجتماعية بأنها “منشار يأكل على الطرفين، فالتأمينات تأخذ من كل عامل نحو 400 ألف ليرة سورية (25 دولاراً تقريباً) في كل عام، وهذا مبلغ كبير بالنسبة إلي، ولا تعطينا أي شيء عند إصابتنا في أثناء عملنا، فلماذا ندفع الاشتراك السنوي إذاً؟”.
لا يغادر هذا السؤال عقول العمال والمياومين في سوريا، في كل مرة يقطعون جزءاً من رواتبهم ليدفعوا اشتراك التأمينات الاجتماعية، وهم يمنون النفس أن يصطلح الحال، ويكون صندوق التأمينات حاصلةً يدخرون فيه تعويضهم… ولكن!
لم ندفع منذ 2011
يقول مصدر مسؤول في تأمينات حلب إن “آلية التأمين تقوم على جمع الأموال من المشتركين لتعويضهم عند الإصابة، لكننا لم نقدم تعويضاً لأحد منذ عام 2012”.
ويضيف لـ”963+”: “صاحب العمل هو من يدفع التعويض للعامل الذي يصاب بإصابة عمل عنده كبادرة إنسانية، لكن التأمينات تحتاج إلى معاملة كبيرة وتحتاج إلى الموافقة من المركزية في دمشق لصرف مبلغ يقدر بنحو 600 ألف ليرة سورية في أفضل الأحوال (60 دولاراً تقريباً)، وتحتاج إلى أكثر من شهر لإتمام العملية، علماً أن الاشتراك الشهري لا يزيد على 7 في المئة من الراتب، للقطاعين العام والخاص”.
ويقول الحسن إن صاحب البناء “ابن حلال”، دفع ثمن العمليات الجراحية التي خضع لها، وقد كلفته 32 مليون ليرة سورية (2200 دولار تقريباً)، “ولو لم يدفع لكانت زوجتي قبضت التأمينات وهي تحيي ذكرى الأربعين لوفاتي”.
لم يكن هذا الكلام دعابة، فيعلّق الحسن: “شر البلية ما يُضحك”.
ليس موجوداً
يقول المعماري عمران غريب، متعهد البناء الذي أصيب فيه الحسن، إن قانون العمل في سوريا لم يعد موجوداً، “أو بتعبير أدق لم يكن موجوداً في تاريخ سوريا، فقبل الحرب كان العمال لا يتسجلون في التأمينات لأنها غير مجدية، وعند الإصابة تتبرأ من المصاب، وبعد الحرب لم تعد الحكومة تسأل عن ظروف العمل، ولا تحسّن شروط العمل”، مضيفاً لـ”963+”: “لم تكن شروط العمل سليمة في سوريا، ولن تكون يوماً، ما دامت التأمينات في يد أمراء الحرب والفاسدين”.
وفي غياب قانون ينظم العمل، وفي غياب شروط العمل الملائمة وأدنى درجات المراقبة، يبرر العاملون في المهن التي تتطلب البقاء تحت أشعة الشمس عملهم بالحاجة والوضع الاقتصادي السيء، غير مبالين بالمخاطر الصحية التي تنجم عن هذا العمل.
أضرار هائلة
وتقول منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية في تقديرات مشتركة نُشرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 إن نحو ثلث الوفيات بسرطان الجلد غير الميلانيني نتجت من العمل الطويل تحت أشعة الشمس. وقد أكد هذه النتيجة بحث الذي نُشر في مجلة Environment International.
وتضيف التقديرات نفسها أن 1,6 مليار شخص في سن العمل (15 عاماً أو أكثر) تعرضوا للإشعاع الشمسي فوق البنفسجي أثناء العمل في الهواء الطلق في عام 2019، أي ما يعادل 28 في المئة من القوة العاملة العالمية في سن العمل. وفي عام 2019 وحده، توفي نحو 19000 شخص في 183 دولة بسبب سرطان الجلد غير الميلانيني الناجم عن العمل خارج المباني تحت أشعة الشمس، وكان 65 في المئة من المتوفين من الذكور.
يقول محمد عبطيني، العامل في مجال حديد البناء، لـ”963+” إن هذه المعلومات “لا تفيدني في شيء وأنا أبحث عن قوت يومي”، محملاً الحكومة السورية ومؤسساتها المسؤولية الكاملة عن سلامته وسلامة العمال، بسبب تراخيها في تنفيذ شروط السلامة والعمل السليم، “وهذا بحد ذاته تقصير كبير”، بحسب تعبيره، مضيفاً: “أنا أتحمل هذه الصعاب كلها، وهذا الخطر كله، كي أعيش أولاً، وكي أجد تعويضاً يعينني إن حصل لي أي مكروه، وأنا لا أجد الأمرين معاً”.
سرقة موصوفة!
في عام 2022، بلغت قيمة الإيرادات المحصلة في فرع المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بحلب من القطاع العام 7,407 مليارات ليرة سورية (450 ألف دولار تقريباً)، ومن القطاع الخاص 2,307 مليار ليرة سورية (175 ألف دولار تقريباً)، بحسب ما قال محمد واعظ مدير فرع المؤسسة بحلب لوسائل إعلام محلية.
وأضاف: “عدد أصحاب العمل الجدد المسجلين في فرع المؤسسة بحسب 881 صاحب عمل، بينما بلغ عدد العمال المسجلين في القطاع الخاص 3546 عاملاً”.
يصف المعماري غريب هذه الأرقام بأنها “سرقة موصوفة”، متسائلاً: “كيف تم تحقيق هذه الأرباح الطائلة حين كان الاقتصاد السوري منهكاً من الحرب، والبلد مغلق بفعل وباء كورونا، كيف يمكن مؤسسة اقتصادية سورية أن تربح فيما كانت اقتصادات العالم تخسر؟”.
يضيف غريب: “لقد خرجت هذه الأرباح من جيوب العمال والمياومين والموظفين الذين يعرضون أنفسهم للمخاطر من أجل مال يظنون أنهم يدخرونه، فيما يسرقه لصوص التأمينات”.
فقدان الاشتراكات التأمينية
بعيداً عن التكهنات، يقول عمر كنعان، مدير فرع مؤسسة التأمينات الاجتماعية في درعا، إن إيرادات المؤسسة تراجعت جداً. وأضاف في تصريح إعلامي أن الارتفاع في حالات التقاعد المبكر خلال السنوات الأخيرة أثر سلباً على هذه الإيرادات، فبين كانون الأول/يناير وتشرين الأول/أكتوبر 2020، بلغ عدد الموظفين المتقاعدين نحو 1100 موظف، “علماً أن عدد المتقاعدين لم يكن يتجاوز 300 إلى 400 موظف”.
ويتابع كنعان أن الإيرادات في فرع التأمينات بدرعا تراجعت أكثر “نتيجة فقدان الاشتراكات التأمينية (حصة العامل ورب العمل) عن المتقاعدين وعدم تعويض الفاقد من الذين يتم تعيينهم حديثاً في مديريات الدولة لقلتهم، وأضف في المقابل أن ذلك رتب دفع رواتب تقاعدية إضافية زادت من الكتلة النقدية المتوجب دفعها كمعاشات تقاعدية، والتي بلغت في 2020 قرابة 500 مليون ليرة سورية شهرياً (3300 دولار أميركي تقريباً) وهي في تزايد مع استمرار كثرة الاستقالات”.
وبحسب كنعان، هناك تقصير في سداد عدد من المديريات لحصة رب العمل (17.1 في المئة) علماً أن وزارة المالية وجهت بزيادة الاعتمادات لها من أجل سداد ما يترتب عليها من تراكمات واستحقاقات لصالح التأمينات الاجتماعية.