خاص ـ حلب
“أعمل في مصنع للإسفنج، وأتقاضى 1,5 مليون ليرة (100 دولار تقريباً) شهرياً، وتعمل اختي في مديرية الزراعة، راتبها 340 ألف ليرة سورية (22 دولاراً تقريباً).. مستورة والحمد لله، وعلى قد بساطك مد رجليك”، كما عبد الرحمن قرنوب (37 عاماً) من حلب لـ”963+”.
ويضيف: “بـ 122 دولاراً في الشهر، ومع هذا الغلاء الفاحش، لا يمكنني أن أخبئ قرشي الأبيض ليومي الأسود، وقد أتاني هذا اليوم الأسود في غفلة من الزمان”.
يوم أسود
بعد وعكة صحية عصفت بوالد قرنوب، قرر طبيبه ضرورة إخضاعه لقسطرة قلبية في أسرع وقت ممكن، “لكن تكلفة هذه القسطرة ’فضائية‘، تصل إلى 38 مليون ليرة سورية (2500 دولار تقربياً) مع أجور أحد مشافي حلب، وأخشى أنني لن أستطيع جمع هذا المبلغ، وأنا أكاد لا أطعم عائلتي المؤلفة من 8 أشخاص إلا بشق النفس”.
تعليقاً على الارتفاع الجنوني في تكلفة الاستشفاء في المشافي الخاصة بحلب، يقول مصدر في مديرية صحة حلب لـ”963+”، طلب عدم الكشف عن هويته، إن الربط الإلكتروني مع الرقابة المالية هو السبب في ارتفاع تكلفة الخدمات الصحية في المشافي الخاصة بنسبة 100 في المئة، فهذا الربط يسمح لهيئة الضرائب الاطلاع على كل فواتير المشافي، وبالتالي تحصيل ضريبة أعلى، “وهكذا أصبحت هيئة الضرائب الشريك الفعلي في كل المشافي الخاصة، حيث تحصل ضريبة تقترب من 40 في المئة على أرباح المشافي، ما أدى إلى ارتفاع خيالي في أسعار الخدمات العلاجية”.
يتابع المصدر نفسه: “في بداية تطبيق قرار الربط الإلكتروني، أشرفت أغلبية المشافي الخاصة على الإقفال، لكن اتفاقاً شفوياً بين وزارة الصحة وأصحاب هذه المشافي سمح لهم برفع الأسعار 100 في المئة”.
فتشوا عن الفساد
إلا أن قرنوب لا يقتنع بهذا الكلام، ويقول: “فتشوا دائماً عن مزاريب الفساد!”. ومن يفتش جيداً، يجد كثيراً. ففي 12 آذار/مارس الماضي، أوقف الأمن الجنائي في حلب مجموعة من الأطباء بتهمة سرقة أدوية فاسدة وبيعها، وتركيب قثاطر طبية مستعملة لمرضى في أحد المشافي الخاصة.
ونقلت تقارير طبية عن زياد حاج طه، مدير صحة حلب، حينها قوله: “خلال جولات الرقابة على المشافي، رُصدت في أحد المشافي الخاصة جهة تسوّق مستهلكات قسطرة معاد تعقيمها”، مضيفاً: “لدى التدقيق في الموضوع ومتابعته من مديرية الصحة، بإشراف وزير الصحة، تبين أن هناك فنيين و6 أطباء يقومون بإعادة استخدام مستهلكات القسطرة لمرضى مختلفين مصابين بأمراض خطيرة”.
في تقصي حقيقة الأمر، يقول ضابط في الأمن الجنائي بحلب لـ”963+”، رفض الكشف عن هويته لحساسية المسألة، إن هؤلاء الأطباء، الذين تحدث عنهم طه، قيد التحقيق لكنهم يتمتعون بكامل حريتهم، ولم يتعرضوا للتوقيف أو الاحتجاز، بسبب نفوذ صاحب المشفى حيث يعملون”، وهو متمول ومستثمر كبير، في سوريا وفي دول أخرى مثل الإمارات ومصر والجزائر.
يضيف ضابط الأمن الجنائي نفسه: “اللافت في الأمر أن هذا الرجل دفع مبالغ طائلة ليمنع توقيف أطباء مشفاه، وهذا دليل جنائي على علمه بما كانوا يفعلون، ويعد هذا شراكة في الجريمة”.
ما شفينا… إلا!
في دمشق، الواقع مظلم أكثر. يقول عمر قاوقجي (51 عاماً)، وهو من سكان حي مساكن برزة في العاصمة السورية، لـ”963+”: “دخلنا مشافينا، فما شفينا… إلا بعدما دفعنا الملايينَ”. لا يضحك قاوقجي، “فهذه ليست دعابة، فقد خضع ابني لجراحة لإزالة الزائدة الدودية، فصدمني المشفى حين طلب مني 2 مليون ليرة سورية (ما يعادل 130 دولاراً)، فتذكرت أن ابن جارنا أجرى العملية نفسها، ولم يدفع أكثر من 500 ألف ليرة سورية (30 دولاراً تقريباً)”.
وبحسب صحيفة “الوطن” المقربة من الحكومة السورية، اضطر مواطن دمشقي لإدخال والده إلى مستشفى خاص بالعاصمة، فدفع قبل الإدخال مبلغ 1,8 مليون ليرة سورية (120 دولاراً تقريباً) بدل كفالة دخول.
تضيف الصحيفة أن التكلفة اليومية في العناية المشددة تتراوح بين 4 ملايين ليرة (267 دولاراً تقريباً) و5 ملايين ليرة (334 دولاراً تقريباً)، يضاف إليها 1,8 مليون ليرة سورية (120 دولاراً تقريباً) بدل إشغال الغرفة، ومليون ليرة سورية (67 دولاراً تقريباً) أجرة منفسة الأوكسجين في اليوم الواحد. وفوق هذا كله، تضاف أجرة الطبيب المشرف، وتتراوح للزيارة الواحدة بين 200 ألف ليرة سورية (13 دولاراً تقريباً) و500 ألف ليرة سورية (33 دولاراً تقريباً)، حتى وصلت كلفة الإقامة في المشفى الخاص أسبوعاً إلى 33 مليون ليرة سورية (2200 دولاراً تقريباً).
وبحسب الصحيفة نفسها، أسعار الأدوية وأجور التحاليل المخبرية والشعاعية داخل المشفى الخاص أكثر مما هي في خارجه بأضعاف مضاعفة.
إلى ذلك، أجرة السرير الخاص في مستشفى الأسد الجامعي بدمشق، وهو أحد المستشفيات الناتجة من العمل التشاركي بين الخاص والعام في سوريا، تبدأ من 50 ألف ليرة سورية (3 دولارات تقريباً) لليوم الواحد، بحسب آخر نشرة أسعار صادرة عن المستشفى في كانون الأول/ديسمبر 2023. والسلفة التي تدفع مسبقاً للقبول الخصوصي لقسطرة القلب والجراحة العامة والأمراض الداخلية هي 100 ألف ليرة سورية (6 دولارات تقريباً).
ليس أفضل
في حمص، تكلف عملية تفتيت حصى في الكلية في مستشفى خاص 5 ملايين ليرة (334 دولاراً)، ويصل بدل الاستشفاء في الليلة الواحدة إلى 800 ألف ليرة (53 دولاراً تقريباً).
ويقول “المرصد السوري لحقوق الإنسان” إن تكاليف العمليات الجراحية ضمن المستشفيات الخاصة بحمص ارتفعت بشكل غير مسبوق، خصوصاً عمليات الولادة القيصرية، التي تخطت تكلفتها 2 مليون ليرة سورية (133 دولاراً تقريباً)، “ما يعادل راتب موظف حكومي مدة عام كامل”.
ويضيف المرصد أن الأطباء وأصحاب المستشفيات الخاصة في حمص يتذرعون بأن السبب الرئيسي لارتفاع كلفة عمليات الولادات وغيرها من العمليات الجراحية “تتحمل مسؤوليته الحكومة السورية بالدرجة الأولى، ومن خلفها وزارة الصحة التابعة لها، بعد القرارات المتتالية التي تمّ اتخاذها بغية رفع أسعار الأدوية، الأمر الذي زاد بدوره من التكلفة المالية التي يترتب على المريض دفعها”.
في طرطوس، الوضع ليس أفضل. تروي رويدا مهنا (29 عاماً) لـ”963+”: “أجريت منذ 4 أشهر عملية ولادة قيصرية في مشفى خاص في المدينة، فدفع زوجي 3 ملايين ليرة سورية (200 دولار تقريباً) في جراحة صارت بسيطة”، مضيفةً: “المشافي الخاصة تتحكم فينا، ما عادت تعاملنا كبشر”.
قطاع قيد الانهيار
إن كان المواطن السوري يرزح تحت نير أسعار الاستشفاء العالية، فربما يكون مقدراً له أن يشهد انهيار النظام الصحي.
فقد كشف تقرير جديد أصدرته لجنة الإنقاذ الدولية في آذار/مارس الماضي أن نحو 70 في المئة من العاملين في القطاع الصحي غادروا سوريا، وباتت النسبة الآن طبيب واحد لكل 10 آلاف سوري. وفي محاولة لتعويض النقص، يضطر العاملون في هذا المجال للعمل أكثر من 80 ساعة في الأسبوع.
كذلك، أحصت منظمة الصحة العالمية في السابق حصول 337 هجوماً على مرافق طبية في شمال غرب سوريا بين عامي 2016 و2019. وقالت في مارس 2023 إن نصف المنشآت الطبية فقط، والبالغ عددها 550 في المنطقة، بقيت قيد الخدمة.
وفي أواخر العام الماضي، قالت تقارير إن المستشفيات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية تعاني نقصاً كبيراً في أطباء التخدير. وقالت هذه التقرير إن هذه المشكلة تقوض القطاع الصحي، ولا حلول جذرية في الأفق، ويعتمد معظم المستشفيات الخاصة على فنيين للتخدير، ما يزيد من حدوث الأخطاء الطبية.