نقبل تعريف الهوية، بوجه عام، بأنها منظومة ثقافية، بالمعنى الواسع للثقافة، بما هي، أي الثقافة، نظام علاقات متكامل من العادات والتقاليد، والممارسات والمهارات، والمعارف والقواعد والمعايير، والمحرمات والإستراتيجيات، والمعتقدات والأفكار والقيم والأساطير، تستمر من جيل إلى جيل ويستعيدها كل فرد وتِّولد “التعقيد” الاجتماعي وتجدِّده. وتجمع في داخلها ما هو محفوط ومنقول ومكتوب، وتتضمن مبادئ الاكتساب ومناهج الفعل. وهي نظام متسق داخلياً بنحوه الخاص الشبيه بنحو (قواعد) اللغة، التي تتكلمها هذه الجماعة أو تلك، هذه الأمة أو تلك. ينطبق هذا على هوية الفرد، بصفته عضواً في جماعة ومجتمع، وعلى الهوية الجمعية، للجماعة أو المجتمع الصغير (community)، والمجتمع الكلي (Society) أيضاً، وينفتح على الهوية الثابتة أو الموروثة، والهوية الديناميكية الحية والمتغيرة باطِّراد.
الفرق بين الهوية الثابتة (الميتة) والهوية الديناميكية (الحية) هو نفسه الفرق بين هوية نرثها، على غير إرادة واختيار، كالهوية الإثنية والهوية الدينية – المذهبية، على ما بين الإثنية والعقيدة المذهبية من تلازم وتضامن تاريخيين، وبين هوية ننتجها، نحن الأحياء هنا – الآن، بالمعرفة – العمل والمشاركة الحرة، النشطة وغير النشطة، المبدعة وغير المبدعة في إنتاج العالم، عالمنا، (المجتمع والدولة)، وإنتاج الوطن، وفق مبادئ الاحتياج المتبادل والاعتماد المتبادل وإمكان التحسن الذاتي وتقسيم العمل الاجتماعي، أو والتقسيم الاجتماعي للعمل، وما يعيِّنه تقسيم العمل من علاقات متبادلة بين الأفراد والجماعات المهنية والتضامنيات (النقابات والجمعايات والنوادي والأحزاب السياسية) .. تتضافر كلها في إنتاج الذوات، وإنتاج الهويات التي تميزها.
الفرق بين هوية تجانسية ميِّته ومميته أو قاتلة، بتعبير أمين معلوف، وبين هوية حية ينبثق أيضاً من الفرق النوعي أو الجوهري بين الجماعة المغلقة (العائلة الممتدة والعشيرة والقبيلة والقوم والطائفة الدينية أو الملة) وبين المجتمع المفتوح (المجتمع المدني القائم والممكن)، الذي قوامه علاقات مدنية بين أفراد حرائر مستقلات وأحرار مستقلين، وأعمال خاصة وقوانين عامة، مؤسسة على المساواة والحرية ومبادئ المواطنة المتساوية. المؤسف أن العاملين في حقل العلوم الاجتماعية والسياسية، ولا سيما في سوريا، لا يفرقون بين الجماعة والمجتمع، ربما لأن كلاً منه يعتبر جماعته المتجانسة (قومه أو ملَّته) هي المجتمع. وهذا ناتج أساساً من كون المجتمعات المتأخرة هي تراصف جماعات و”تعايشها”، على مضض، تحكمها علاقات الأكثرية بالأقليات أو علاقات الغلبة والمغلوبية. والمؤسف أيضاً أن المثقفين والمفكرين العرب ولا سيما السوريين منهم، لم يُخضعوا مفهوم الأمة – الملة أو الملة – الأمة للنقد، بل يتغنون بالثقافة العربية الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية والمجتمعات العربية الإسلامية والقيم العربية الإسلامية … إلى آخر المعزوفة، وينشغلون بـ “العقل العربي” و”العقل الإسلامي” وامتيازهما على “العقل الغربي” أو العكس، علاوة على انشغالهم بالتراث المجيد. ولم يتنبهوا إلى أن العنصرية (القومية) والطائفية إنما تولدان من هذا الالتباس القاتل والثقافة النتنة.
فما يجعل الهويات مغلقة وثابتة، خلافاً لطبيعة من ينتجونها، أو يعيدون إنتاجها، هو ترجمة رأس المال المادي (الناتج من العمل) ورأس المال الاجتماعي (الناتج من الفاعلية الاجتماعية والنشاط الإنساني) إلى سلطة فظة، وطاعة غير مشروطة، ورأس المال الثقافي إلى سلطة ناعمة واتِّباع طوعي غير مشروط أيضاً، ومنح هاتين السلطتين مقبولية عقلية وأخلاقية. ويمكن إجمال هذه العمليات بترجمة المعرفة والثقافة إلى سلطة. وهذه تملك وسائل التعليم والنشر والتعميم وسلطة التفسير والتأويل واصطفاء الدلالات، وإدماج التصورات الفردية المختلفة في تصور مركزي تكسبة طابع الشمول والحقيقة. والثقافة، في الحالين هي العامل الرئيس في عملية / عمليات “إعادة الإنتاج”، وإعادة إنتاج هوية جوهرية أو ماهوية (essentialism) للذات وللآخر، وإعادة إنتاج تمثُّل (representation) صورة الآخر أو استحضارها، لدى كل محاولة لتحديد الذات أو تعريفها.
ومن طبيعة السلطة أنها تحوِّل شروط إمكانها، أي علاقات القوة المبثوثة في فضاء الجماعة أو المجتمع إلى قوة مركزة ومركزية، وتحوِّل منتجيها إلى موضوع لهذه القوة، وأنها تبسط نفوذها على الثقافة، التي أنتجتها، تمهيداً لبسطه على الأشخاص، فتتحول المقبولية التأسيسية لدى هؤلاء، إما إلى طاعة غير مشروطة وإما إلى مقاومة غير مشروطة، سواء باسم الهوية ذاتها، أو باسم هوية وهويات أخرى منافسة. واللامشروطية، في المبادئ والأهداف، هي ما يولد التطرف والعنف.
إذاً، تكمن جذور المشكلة الهووية في العلاقة التداخلية / التخارجية، لا الجدلية، بين الثقافة والسلطة. فما من سلطة سياسية (غير ديمقراطية) إلا كان همها الرئيس أن تسيطر على المجال الثقافي وعمليات إنتاج الثقافة وإعادة إنتاجها، وكان مصيرها يتوقف على مدى نجاحها أو إخفاقها في ذلك. فالمستبدون لا يقبلون أن يكون هناك من هم أكثر غيْرة منهم على الثقافة بوجه عام وعلى الدين بوجه خاص، لذلك كانوا، ولا يزالون، بلاء على المبدعين ودعاة الإصلاح.
ومن ثم، إن العنصرية القومية والطائفية المذهبية هما إستراتيجية سلطة مطلقة، (أو سلطة مطلقة مضادة)، ونسق مولد للعنف والإرهاب. ولما كانت السلطة محافظة بطبيعتها فإنها تحول الثقافة إلى بنية مغلقة، وتحول دون تشكل ذوات إنسانية حرة ومستقلة، وتمنع التفكير الحر والمساءلة النقدية، وتحول دون التواصل الإنساني والاندماج الاجتماعي. فالعلاقات الاجتماعية والسياسية التي تعينها ثقافة معجونة بالسلطة تظل علاقات بين محمولات ثابتة أو بين هويات لا بين ذوات. هنا يتجلى تناقض حدِّي بين الهوية والذات، هو تناقض بين الانتماء الحصري لجماعة بعينها واستبطان أوهامها عن ذاتها، وبين الانتماء الوجودي، الجذري، إلى النوع الإنساني، أو بين “الخصوصية” والكونية. الكونية هنا بمعنى الإنسانية أو الإنسية، التي تؤسس الوطنية، أو لا تكون الوطنية سوى عنصرية الكونية تعني أن العلاقات الاجتماعية والإنسانية لا تتحدد بمحمولات الأفراد واتجاهاتهم وميولهم وانتماءاتهم الإثنية أو المذهبية وترتهن بها، بل بوسعها أن تتخطى المحمولات إلى الذوات، فتغدو علاقات بين ذوات حرة ومستقلة. ولكنها لا تنفي هذه الانتماءات، بل تدفع إلى تفهُّمها، وتقبُّل الآخر المختلف، كما هو. ولا تنفي تعارض المصالح وتناقضها أيضاً، ولكنها تجترح لها حلولاً ومقاربات سلمية قائمة على النقاش والحوار والتفاوض، من موقع الندية والتكافؤ في الجدارة والاستحقاق. وحين تتأسس المواطنة على هذا الأساس تنكشف عورة المذهبية، بمختلف صنوفها وألوانها.
التضامن و”التحديد المتبادل” بين العقائد والعصبيات هو ما شكل النسيج التاريخي لعصور ما قبل الحداثة، مع أن العصبية والعقيدة من طبيعتين مختلفتين، لا يتحدَّد أي منهما بالآخر، بل يمكن أن يتضامنا ويتآزرا. لعل هذا الاختلاف مما يمنح كلاً منهما نوعاً من الاستقلال، يجعل المساحة المشتركة بينهما مرنة قابلة للمد والجزر، والعلاقة المتبادلة بينهما قابلة للتغيُّر، إذ بوسع العصبية، وهي الطرف الأقوى في العلاقة، أن تتبنى مذهباً جديداً، أو تصطنع من يعدِّل المذهب أو يشقُّه، لاستبعاد ما لم يعد مناسباً لمصالحها منه، فالمذاهب والعقائد تتغيَّر أو تتكثَّر وفقاً لعلاقتها بالسلطة، إذ لا قوام لها من دونها ولا قوة. فلم يعد بوسع أي مذهب أن يعود القهقرى إلى الزمن الذي كانت فيه حياة الجماعة تجربة دينية خالصة، أي لم يعد بوسعه أن يعود إلى حيث كان ديناً، بحكم نسيجه الدنيوي. مع أن هذا النسيج لا يزال يحتفظ بعناصر دينية أهمها البعد الأسطوري (الميثي) الثري بالدلالات والرموز، ونظام الحقيقة المتعالي المضمون إلهياً، والمفارق كلياً لحقائق الكون والعالم الواقعي، وإمكانية الاتصال الرمزي بين الأرض والسماء، ومركزية الذات المؤسَّسة في المكان المقدس، الذي هو “مركز العالم، وسرة الكون”، وفي الزمن المقدس القابل للانعكاس، أي للاستعادة والتحيين، بصفته الزمن الإلهي الذي جرت فيه عملية الخلق أول مرة، والذي يقوم البشر بمحاكاته وتكراره لبناء عالمهم الروحي. ولا تزال الممارسات الطقوسية تحمل بعض هذه الدلالات. ليس بوسع أحد أن يميز المؤمنين، من أي مذهب، من غير المؤمنين. ولكن ليس من الصعب تمييز المذهبيين الذين يمزجون العقيدة بالسلطة والغايات الدنيوية، وينصبون أنفسهم أوصياء على الآخرين، باسم العقيدة، وإن لم يكونوا متدينين.
التضامن التاريخي بين العصبية والعقيدة، يجعل مصير العقيدة أو المذهب مرتبطاً بمصير العصبية، وهذه آخذة في التفكك والتفسخ، في غير مكان، وإن ببطء وتعثُّر، جراء فقدانها لوظائفها المادية، واستقلال عملية الإنتاج عنها، وانتشار المعرفة العلمية واتساع نفوذها، والانعطاف المتنامي إلى العالم الواقعي والانشغال به والاشتغال فيه، واستقلال المجال السياسي بنفسه مجالاً دنيوياً خالصاً، منذ نشوء الدولة الحديثة، وصيرورة المؤسسة الدينية واحدة من مؤسسات المجتمع المدني. ولكن ذلك لا يعني زوال الدين والممارسات الطقوسية من حياة البشر، بل يعني بالتحديد زوال المذهبية الطائفية، بالإلغاء السياسي لجميع المذاهب والعقائد. بعبارة أخرى، يمكن القول إن العالم يشهد تراخياً في المعايير المذهبية، في مجالي الأخلاق والسياسة، يتناسب طرداً مع درجة تقدم المجتمع، ودرجة الرخاء الاجتماعي والاستقرار السياسي، وإن الطائفية المذهبية تتجه إلى أن تصير شيئاً من الماضي.
لذلك نعتقد أن مشكلة المجتمعات التي لا تزال تعاني توترات مذهبية تكمن في خياراتها الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية، لا في تدينها أو عدمه، ولا في ما يسمى “إشكالية العلاقة بين الدين والدولة”، ولا سيما أن التاريخ يضعها أمام منعطف: إما التوجه نحو الحداثة والديمقراطية، وإما النكوص إلى الهمجية واستئناف صراعات الماضي واستمراء القتل والتدمير و”إدارة التوحش”. ولعل عدم الاعتراف بالقطيعة التاريخية التي أنجزتها الحداثة مع الماضي، وعدم إدراك مغزى الإلغاء السياسي للدين، هما أساس التباس علاقة العقيدة بالسلطة وأساس التوترات والنزاعات ذات الصبغة المذهبية.
وندعي أن ما يسمى “إشكالية العلاقة بين الدين والدولة” هي في واقع الأمر إشكالية العلاقة بين العقيدة والسلطة، على اختلاف أنواع السلطات وآليات إنتاجها وأشكال ممارستها. وتندرج هذه الإشكالية في “جدلية المعرفة والسلطة”؛ إذ لم تنقطع علاقة المذاهب الدينية بالسلطة، بوجه عام، وبالسلطة السياسية، بوجه خاص، إلا بعد قيام الدولة الحديثة والنظم الديمقراطية. فإذا لم ندرك الفرق بين الدولة والسلطة ونظام الحكم لا نستطيع أن ندرك أن المذهبية هي دين السلطة، وأحد مصادر “شرعيتها”، في كل زمان ومكان. ومن هذا القبيل سلطة الشيوعيين في ما كان يسمى البلدان الاشتراكية، وسلطة البعثيين في العراق وسورية، وسلطة الملالي في إيران، والسلطات التي تشبهها، في غير مكان.
ويمكن القول إن الديمقراطية تعيد للدين طابعه الروحي ورسالته الأخلاقية، وتوقعن ما فيه من روح إنساني، أي تعيده إلى ما كان عليه، قبل أن يصير عصبية العشيرة، ومذهب السلطة، وعقيدة الملك؛ فيعود “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ويمكن لمن يتأمل في التاريخ السياسي وأنواع الحكومات وأنظمة الحكم أن يلاحظ الاحتياج المتبادل والاعتماد المتبادل بين العقيدة والسلطة، سوى في النظم الديمقراطية التي تستمد شرعيتها من الشعب، فلا تحتاج إلى أي تبرير مذهبي أو شرعية مفارقة ومتعالية. الديمقراطية تستمد قيمتها وشرعيتها وتبريرها من ذاتها، أي من الشعب، (ديموس)، الذي هو حقيقة نظام الحكم؛ فلا تحتاج إلى توظيف الدين والتلاعب بالمقدس، ولا إلى توظيف أي عنصر من عناصر رأس المال الرمزي لأي من الجماعات، وباتت تهزأ بالخطاب التاريخي – السياسي المضاد للتاريخ.