خاص – الحسنا عدره/دمشق
“… وكل ذي عاهة جبار”. بثقة كبيرة تقولها أناهيد طنطا، الخبيرة السورية في الترجمة بلغة الإشارة، مستذكرة آخر إحصائية عن المكتب المركزي للإحصاء ترصد في عام 2018 وجود 16,802 أصم وأبكم في سوريا، منهم 3,480 في دمشق وريفها، إضافة إلى إحصائيات رسمية سوريّة تؤكد وجود نحو 20 ألفاً من الصم والبكم في كافة أنحاء سوريا، بينما ترجّح منظمات غير حكومية أن يتجاوز عددهم خمسة أضعاف هذا الرقم.
وتضيف طنطا لـ”963+”: “ما يعزز هذه الترجيح هو ما خلفته الحرب من إعاقات سمعية نتيجة التعرض لدوي القذائف”، لافتةً إلى أن الجمعيات المعنية بدعم الصم والبكم لا تملك إحصائية دقيقة بسبب امتناع بعض الأهالي من تسجيل أبنائهم الصم والبكم، “ولأن الإحصاء الدقيق يحتاج إلى مسح شامل، وهذا متعذر حالياً لأسباب معروفة”.
معهد بلا فائدة
في العالم اليوم نحو 72 مليون أصم وأبكم، بحسب الاتحاد العالمي للصم والبكم، يعيش 80 في المئة منهن في الدول النامية، يعتمدون التعبير بنحو 300 لغة إشارة تقوم على حركات اليدين وإيماءات الوجه وفق نظام بصري حسي يربط بين الإشارة والمعنى.
قبل عام 1961، لم يكن في سوريا كيان موحد لأصحاب الإعاقة السمعية والكلامية. وفي ذلك العام، تأسست جمعية رعاية الصم في ساروجة بدمشق بمبادرة فردية توسعت لاحقاً لتحتضن نحو 3500 أصم وأبكم من الذكور والإناث، ولينطلق منها بعد 4 أعوام اتحاد جمعيات الصم في سوريا.
في عام 1970، أنشأت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في سوريا معهد التربية الخاصة للصم والبكم، تحت إشراف كادر متخصص من مديرية تربية دمشق، بالتنسيق مع مترجمين متخصصين في لغة إشارة.
إلا أن هذا المعهد لم يرفع نسبة المتعلمين بين الصم والبكم إلى أكثر من 20 في المئة من إجمالي عددهم بحسب طنطا، مضيفة: “نفتقر إلى التقنية البصرية التي تعتبر العمود الفقري لتعلم الصم والبكم وتحسين قدرتهم على تتبع حركة الشفتين، ناهيك عن أن التعليم في المعهد يتوقف عند الشهادة الابتدائية، ما يحرم الصم والبكم التعليم المتوسط والثانوي”، مذكرةً بأن الحرب السورية رفعت نسبة التسرب المدرسي بين الصم والبكم، وحولت القسم الداخلي في المعهد إلى مركز لإيواء النازحين.
أحلام بسيطة
كان جُلّ ما تتمناه نور (21 عاماً) هو إكمال دراستها الجامعية بيسر، بوجود مترجم بلغة الإشارة معتمد في جامعتها كي يسهل عليها عملية تلقّن المعلومات، وعدم الاعتماد على قراءة حركة الشفتين. تقول نور لـ”963+”: ” بمساعدة مترجمة على نفقتي الخاصة، اجتزت السنة الدراسة بصعوبة بسبب عدم وجود مترجم دائم يلتزم المحاضرات. كان مفترضاً بي أن أكون في السنة الأخيرة في تخصص رياض الأطفال، لكنني تخلفت بسبب عدم تمكني من الاستيعاب”.
وتضيف: “انتقلت إلى السنة الثانية بجهد خاص، ومساعدة أصدقاء سهروا معي الليالي”، متمنية النظر جدياً في ما يعيق تحصيلها العلمي.
وعلا أيضاً، ابتليت بالصمم والبكم، فتعيش المعاناة نفسها. تحلم بالالتحاق بالجامعة ودراسة اللغة العربية، لكنها تعلم أن الأمر لن يكون سهلاً. تقول لـ”963+”: “إننا مهمشون تعليمياً، بسبب افتقارنا للتقنيات الحديث، وربما لأننا ولدنا في سوريا، ولم نولد في أوروبا أو مصر.. أو الأردن”. ولهذا قررت علا السفر إلى عمّان للدراسة الجامعية، حيث الدعم متوافر، والمساعدة موجودة دائماً، على نفقة الدولة.
بلا سند
لا يواجه الصم والبكم تحديات شخصية فحسب، فالأجور المتدنية التي يتقاضاها مترجمو لغة الإشارة تدفع بهؤلاء إلى هجرة هذه المهنة، “فيترك الصم والبكم بلا سند”، كما تقول طنطا.
وتضيف فرح التل، وهي مترجمة أخرى بلغة الإشارة، تحديات أخرى. تقول لـ”963+”: “غياب تصنيف المترجمين والخبراء واحد من العراقيل التي تواجه تطور لغة الإشارة”. الخبير هو من يملك مهارة عالية في الترجمة بلغات الإشارة العالمية، وليس باللغة التي تعتمدها بلاده، وفي توصيل الأفكار بسلاسة.
في سوريا مئات المترجمين بلغة الإشارة، أما الخبراء فعددهم 9 فقط، وفقاً لجدول الخبراء الصادر عن وزارة العدل التابع للحكومة السورية، موزعين على الشكل الآتي: “خبير واحد في دمشق وريفها، ودرعا، وحمص، واللاذقية، و3 خبراء في حلب والسويداء”، كما تقول طنطا.
نشر لغة الإشارة
تضيف التل، التي تعمل في هذا المجال منذ نحو 12 عاماً: “قلة عدد المترجمين يؤثر سلباً في الوصول إلى جميع الصم والبكم، لذلك نجد صعوبة في تلبية حاجاتهم جميعاً، فقد يحدث تعارض عند استدعائي إلى فرع أمني ومستشفى في آن معاً، إذ يجب على أحدهما انتظاري لأخذ إفادته ريثما انتهي من الآخر”، مشيرةً إلى صعوبة توفير المواصلات للصم الذين يسكنون في الأرياف، “ما يجعل فرصتهم في التعلم ضئيلة، ولهذا على المجتمع الأهلي والجمعيات الداعمة للصم والمنظمات والإعلام المساهمة في نشر لغة الإشارة في سوريا”.
ونشر لغة الإشارة لا يعني تأهيل مترجمين وخبراء في هذه اللغة فحسب، “بل وضع قاموس موحد للغة الإشارة، أسوة بدول العالم، والعمل على تطويره لاعتماده في تدريس الصم والبكم بشكل رسمي في جميع المدارس والمعاهد الخاصة، وفي نشرات الأخبار والمحافل الدولية، بينما يمكن تداول لغة الإشارة التي تختلف من محافظة إلى أخرى في سوريا كاختلاف اللهجات بين أوساط الصم”، بحسب طنطا، التي فازت أخيراً بعضوية مجلس إدارة المنظمة العربية للصم.
دمج في المجتمع
والمساهمة الأهلية لا تتوقف هنا، “بل تتجاوزها إلى مساعدة الصم والبكم على مواجهة التحديات التي تفرضها إعاقتهم، والتي تعيق تواصلهم مع محيطهم”، كما تقول هدى محمود، رئيسة جمعية “لغتي إشارتي” وأول صماء حائزة على شهادة الماجستير في علم الاجتماع، مضيفة لـ”963+”: “أقيم لهم دورات تدريبية للصغار والكبار في الكمبيوتر واللغة الإنكليزية والحساب الذهني والرسم والصحة الإنجابية والتحرش الجنسي وغيرها، بهدف توعيتهم وكسر خجلهم، ويسهل اندماجهم في المجتمع”.
وقد انطلقت جمعية “لغتي إشارتي” في عام 2020، بدعم من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية، هدفها دمج الصم والبكم في النسيج المجتمعي السوري، وإشراكهم في الفعاليات والنشاطات العامة، وإمدادهم بالدعم ليشعروا بالمساواة والعدالة الاجتماعية مع الآخرين، “وليكونوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السوري”، بحسب محمود.