خاص – رانيا محمد/دمشق
في الحريقة بوسط العاصمة السورية دمشق، في شارع يكتظ بالمارة، لم تعفني تلك المتسولة، إنما لحقتني من متجر إلى آخر متعلقة بأذيال فستاني. ضقت بها ذرعاً، فنهرتها: “ما معي فراطة”. ففاجأتني: “ما في مشكلة.. بصرفلِك”. كظمت غيظي فتحول إلى ضحك… شر البلية ما يضحك فعلاً!
أينما تولِّ في شوارع دمشق، فثمة عائلات بأكملها تتسول. في السابق، كان التسول مقتصراً على كبار السن وذوي الإعاقة، أما الآن فترى أطفالاً يقفزون بين السيارات بلا خوف، ويتعلقون بأي نافذة سيارة مفتوحة لعلهم يحصلون القليل من الماء، ونساء حاملات أطفالاً رضعاً يلاحقن المارة.
إنهم ينتشرون على كامل الخريطة الدمشقية. قال لي فرنسي يزور سوريا إنه يحب مطاعم منطقة الروضة بدمشق، “لكنني توقفت عن ارتيادها بسبب كثرة المتسولين”. فيعلق الباحث الاجتماعي كنعان الحكيم بالقول: “وهل تعجبون من هذا، فالسوريون يعيش اليوم حالة من عدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي لم يعرفوها يوماً”.
جيش جرار
ربما التسول ليس جديداً في دمشق، لكن نسبة المتسولين صارت “أكثر كثيراً”، كما يقول الحكيم لـ”963+”، مضيفاً: “الحرب أنهكتنا جميعاً، وتسببت بتأكّل المجتمع السوري على الصعد كلها… ألم يقل الصحابي عمر بن الخطاب ’لو كان الجوع رجلاً لقتلته‘؟ لكن الجوع هنا جيش جرار من الأزمات. وثمة من لم يعد يجد طعاماً”، علماً أن 59 في المئة من إنفاق الأسرة السورية اليوم يذهب لشراء الطعام الأساسي، بعدما كانت هذه النسبة 45 في المئة قبل الحرب، بحسب برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة.
ما زاد الطين بلة والوضع المعيشي تردياً كان قرار هذا البرنامج وقف مساعداته الغذائية العامة في جميع أنحاء سوريا ابتداءً من 1 كانون الثاني/يناير 2024، بسبب نقص في التمويل، بعدما كان يقدم مساعدات غذائية إلى 5.6 مليون شخص في سوريا شهرياً، على شكل حصص غذائية أو قسائم نقدية لشراء الطعام للعائلات. كما كان يوفر لأطفال المدارس في سوريا وجبات غذائية خفيفة، ويعمل على وقاية الأمهات والأطفال من سوء التغذية.
في بيان التوقف، أكد برنامج الأغذية العالمي مواصلته دعم الأسر المتضررة من حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية في سوريا، “من خلال تدخلات طارئة أصغر وموجهة أكثر”، من دون أن يحدد طبيعة هذه التدخلات.
جوع حقيقي
تنسب تقارير صحفية إلى محمد خربوطلي، قاضي التحقيق الثاني في دمشق، قوله إن 99 في المئة من متسولي دمشق غير محتاجين. وتقول دالين فهد، مديرة الشؤون الاجتماعية والعمل بدمشق، لـ”963+”: “لا يمكننا أن نقول إن المتسولين كلهم يحتاجون إلى طعام، فثمة من صار التسول عنده مهنة، يعتاش منها، لأن المتاجرة بالعواطف والمراهنة على إثارة الأحاسيس عند الآخر صارا وسيلة مربحة”. وتلفت أيضاً إلى ظاهرة “التسول المحترم”، أي أن تقترب سيدة بلباس أنيق فتطلب المساعدة للانتقال إلى مدينة أخرى مثلاً… “لكنها تبقى مكانها يومياً، متحججة بالحجة نفسها”.
“هؤلاء قلة”، كما يقول الحكيم. فبرنامج الغذاء العالمي أكد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 أن 12.1 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي في سوريا، وأن سوريا تعاني مستوياتٍ قياسيةً في الجوع، كما نشرت إحدى الصحف التابعة للحكومة السورية في بداية عام 2021 إحصائية تقدر عدد المتسولين في سوريا بنحو 250 ألفاً تقريباً، 51.1 في المئة منهم إناث، و49.9 في المئة ذكور، و4.64 في المئة منهم يمارسون التسول بشكل محترف، ويشكل الأطفال 10 في المئة من العدد الإجمالي، أي نحو 25 ألف طفل.
يضيف الحكيم تعليقاً على كلام خربوطلي وفهد: “ثمة جوع حقيقي في المناطق الخاضعة للحكومة السورية، فراتب موظف الدرجة الأولى في القطاع العام لا يتجاوز 180 ألف ليرة (13 دولاراً تقريباً)، ويصل إلى مليون ليرة (71 دولاراً تقريباً) في القطاع الخاص، فيما تحتاج العائلة المؤلفة من 5 أفراد إلى نحو 6 ملايين ليرة (430 دولاراً تقريباً) في الشهر لتعيش بالحد الأدنى، وفقاً لإحصاءات أممية”، مذكراً بأن مآسي النزوح الموت أصابت نحو 90 في المئة من الأسر السورية، وبأن سعر الدولار اليوم 15 ألف ليرة تقريباً، فيما كان 50 ليرة فقط في عام 2010، “وهذه كلها عوامل تزيد من نسبة المتسولين في دمشق”.
وتلفت فهد إلى تفشي ظاهرة أخرى متصلة بالتسول. تقول: “صار عادياً مشهد الرجال والنساء والأولاد ينبشون حاويات القمامة بحثاً عن بقايا طعام ليقتاتوا بها، أو عن أي أوعية بلاستيكية يبيعونها ليشتروا بثمنها طعاماً”، وتصر على أن مافيات تشغل المتسولين والمتسولات، “والغلة مقبولة في آخر النهار”، إذ يقول شوقي عون، مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في مجلس محافظة دمشق، في تصريح صحافي إن الدخل اليومي المتوسط للمتسول “يصل إلى 35,000 ليرة سورية (2.5 دولار)”، فيما تقول جمعيات أهلية إن هذا الدخل يصل في أيام الأعياد الدينية إلى 100,000 ليرة يومياً (7 دولارات تقريباً). فهل يمكننا تسمية دمشق بـ”جنة المتسولين”؟
تسول إلكتروني
تطور الزمن، وتطورت معه أساليب التسول. تقول لمى العرجاوي، المغتربة في ألمانيا، إن عدداً كبيراً من “معارفها” توقفوا عن الاتصال بأقاربهم في سوريا. تضيف لـ”963+”: “فلا سيرة على لسانهم إلا طلب المال، بالرسائل النصية، برسائل واتسآب، وحتى بالإيميل، وكأن المغترب يجد ماله على الطريق، أو يقطفه عن الشجر”. وكذلك يقول خالد الجبان، المغترب في الإمارات، لـ”963+” إن صحبه في سوريا لا يكلمونه إلا ليطلبوا منه مالاً. وصار الأمر استغلالاً وامتهاناً كما يقول حبيب الشعار، المغترب في ألمانيا، لـ”963+”، إذ اكتشف أن بعضهم يستغل المغتربين بطلبات مساعدة متعددة من أشخاص عدة في الوقت نفسه، وبالحجة نفسها: “أمي مريضة، أبي في المشفى، أنا لا أستطيع المشي… وهكذا”، حتى صار يحظرهم على واتسآب وعلى حساباته بمنصات التواصل الاجتماعي.
يقول الحكيم: “هذا هو التسول الإلكتروني، أو الاستجداء المالي من خلال التواصل عبر الإنترنت، وقد ازدهر مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا”. ومنهم من يفعلها داخلياً، طلباً مثلاً لبطاقة شحن “الموبايل”، أو غير ذلك، “ومنهم من يتواصل مع مغتربين ومواطنين يعرضون الجنس مقابل حوالات مالية”.
في هذا الإطار، يقول الخبير الاقتصادي ضاحي محمود الحسن لـ”963+” إن تلبية المغتربين طلبات “المتسولين” من أصحابهم السوريين نشط عملية التحويل إلى سوريا، “فصارت الحوالات مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من الأسر السورية، لكن لا يمكننا تقدير حجم هذه التحويلات بسبب الاعتماد على طرق غير رسمية”. ويضيف الحسن أن استمرار التضخم وسوء القرارات الاقتصادية يزيد من سوء الوضع المعيشي، “ما يدفع السوريين إلى طلب المزيد من المعونات من المغتربين والمنظمات الدولية”، مشيراً إلى فساد يشوب عمل الجمعيات الخيرية.
بالقانون!
تقول فهد إن ثمة مشروع قانون جديد يفرض عقوبات رادعة على ممتهني التسول، بما في ذلك السجن والغرامات المالية، “فوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية تسعى إلى قمع ظاهرة التسول بمساعدة الشرطة”.
وتؤكد فهد أن القانون الجديد يُعاقب كل من يستخدم وسائل إلكترونية للتسول بالسجن بين 6 أشهر وسنة، مع دفع غرامة مالية تتراوح بين مليون ليرة (71 دولاراً) و3 ملايين ليرة (214 دولاراً).
كما يعاقب من يستجدي باستخدام التهديد وأعمال الشدة أو حمل أسلحة أو مواد وأدوات خطرة، أو بالتظاهر بالإصابة بجروح أو عاهات، أو التنكر بأي شكل، أو بالدخول إلى المنازل أو المنشآت السياحية أو بحمل وثيقة، بالسجن بين سنة وسنتين، مع دفع غرامة مالية تتراوح بين 3 ملايين ليرة (214 دولاراً) و5 ملايين ليرة (357 دولاراً).
يعلق الحكيم قائلاً: “ثمة قانون يعاقب على التسول، لكن نحتاج إلى قانون يحمي الناس من الجوع”.
في مناطق أخرى
ربما يكون التسول أكثر بروزاً في دمشق ، لكن هذه الظاهرة موجودة في مناطق سورية أخرى. ففي الشمال السوري، يعمل المجلس المحلي لمدينة جرابلس بريف حلب الشرقي على مكافحة ظاهرة التسول المتفشية في المدينة. وفي 8 نيسان/أبريل المنصرم، أصدر تعميماً قال فيه إن الجهات المعنية في جرابلس ستقوم بالعمل على الحد من ظاهرة التسول بالمنطقة. وأضاف: “إذا كان الشخص بحاجة فسوف تتم معالجة وضعه بتقديم المساعدات، وإذا ظهر خلاف ذلك سيتم تقديمه للجهات المختصة لإجراء المقتضى القانوني بحقه”، مشيراً إلى أن ظاهرة التسول من الظواهر الاجتماعية السلبية على المجتمع المتمسك بعاداته وقيمه “المتمثلة بالتكافل الاجتماعي”.
في حمص، يؤكد الناشطون في الحقل الاجتماعي انتشار ظاهرة التسول في مختلف أنحاء المدينة حمص، مع إشارات على اتخاذها مهنة وعملاً يدران أرباحا يومية، حتى أن الجمعيات الأهلية في المدينة تقول إن نسبة التسول في هذا العام “زادت أكثر من 50 في المئة على الأقل مقارنة بالعام الماضي”، مع وجود أدلة على استخدام الأطفال في التسول والابتزاز.