خاص – طارق ميري / حماه
كانت شهيرة هدية تحيك شالاً من الحرير الطبيعي لحفيدتها، فأعاد خيط الحرير إلى ذاكرتها صوراً من أول يوم تعملت فيه هذه المهنة وكانت بعد طفلة. ربما تكون هذه الصور مشتركة بين نساء قرية دير ماما في ريف مصياف بمحافظة حماة السورية، فالعمل بخيط الحرير مهنة منتشرة هنا منذ عشرات السنين، بدأت سبيلاً لمكافحة الفقر بفضل توافر شجر التوت، قبل أن تتحول هذه المهنة إلى سمة من سمات هذه القرية، جزءاً من إرثها الثقافي.
اشتهرت هذه القرية بحريرها أكثر من المناطق السورية الأخرى، واعتبرت مركزاً للحرير الطبيعي، “لأن مربي دود القز فيها متمسكون بعملية الإنتاج التقليدية، “إضافة إلى شغف الأهالي به”، بحسب ما يقول محمد عباس، مدير فرقة ديرماما لإحياء التراث، لـ”963+”.
وشهيرة هذه ثمانينية تقضي مع نظيراتها ممن عملن في تربية دودة القز أشهراً ليغزلن خيطاً من الحرير الطبيعي، وينسجن منتجات حريرية، وسط طقوس اجتماعية محببة. وقد وصل إنتاج دير ماما من شرانق دود القز إلى 11 طناً في تسعينيات القرن الماضي، وحتى عام 2011 تقريباً، قبل أن يبدأ مسارها الانحداري، حتى صارت هذه المهنة اليوم مهددة بالاندثار.
خضراء فحمراء فتشييح فحلّ
تبدأ عملية إنتاج الحرير في نيسان/أبريل وتنتهي بنهاية أيار/ مايو تقريباً. تروي هدية لـ “963+: “يبدأ الأمر بشراء بذور الدود، ووضعه في أماكن دافئة. كنا نفضل البذور المستوردة من اليابان وفرنسا وإيطاليا، لكن الوضع تغير مع اندلاع الحرب في عام 2011. وهذه البذور تحتاج إلى عناية مشددة حتى تفقس البيوض بعد أسبوع، ثم تصبح دودة، نسميها هنا النقشة، فتتغذى بورق التوت المقطع صغيراً جداً”.
“المرحلة الثالثة هي المرحلة الخضراء، كما تقول هدية، مضيفة: “يصبح لون الدودة أخضر لأنها تتغذى بورق التوت، ثم ننتقل إلى المرحلة الحمراء، حين يأكل الدود ورق التوت بشراهة كبيرة، فيكتمل نموه ويصبح شفافاً. بعدها، نحضر نبات الشيح ونضعه بين الديدان كي تتسلق العيدان فتبني الشرانق، وهذه مرحلة التشييح”.
بعد أيام، تكتمل الشرنقة وتبدأ مرحلة “الحل” بوضعها في ماء مغلي على دولاب، وسحب الخيوط منها وتثبيتها على النول لغزلها ونسجها، والبدء بعملية صناعة منتجات الحرير.
منتجات الحرير الطبيعي
يصنع أهالي القرية مختلف أنواع منتجات الحرير، مثل الشالات والألبسة، وتتراوح أسعار هذه المنتجات اليوم بين 500 ألف ليرة (33.4 دولاراً تقريباً) ومليون ونصف المليون ليرة (100 دولار تقريباً)، وفقاً للوزن ونسبة الحرير المستخدم في دمج التطريز في منتجات الحرير. كما صنعوا صابوناً من الشرانق وليفة حمام معتبرين أنها تفيد البشرة والجسم.
تقول هدية: “مع مرور السنين وارتفاع الأسعار، بات مربو دود القز ينتجون قطعاً مختلفة بحجم أصغر تناسب السوق وقدرة الناس الشرائية”.
في القرية متحف للحرير، صاحبه محمد سعود الذي يعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 55 عاماً، وهو حاصل على شهادة «شيخ كار حرفة الحرير» من اتحاد الحرفييّن. في المتحف كل منتجات الحرير وأدوات صناعته في كل مراحل إنتاجه، إضافة إلى لوحات مصنوعة من شرانق القز.
وهذا جعل قرية دير ماما مقصداً للسياح من داخل البلد وخارجه، لكن أعدادهم قليلة في السنوات الأخيرة، حيث زارت وفود عدة القرية من محافظات مختلفة، واطلعت على منتجات الحرير وطريقة صناعته، ما ساعد بتصريف بعض المنتجات.
طقس اجتماعي
لم تكن مهنة تربية دودة القز وصنع الحرير الطبيعي مجرد عمل يجري على مدار شهرين تقريباً في دير ماما، بل باتت جزءاً من ثقافة القرية، موسومةً باسمها، “فعندما تذكر دير ماما يُذكر الحرير، وطقوسه الاجتماعية”، كما تقول هدية.
يجتمع الجيران والمعارف، ويؤدي كل منهم عمله: هناك من يجهز الحطب للنار، وآخر يحضر المعدات المطلوبة، أو يعمل على النول. تضيف هدية: “كنا نجتمع في سهرات سمر، بلا كهرباء، على ضوء السراج لساعات طويلة. العائلة تجتمع كلها للعمل والمساعدة”.
تخفف هذه السهرات إرهاق العمل لأنه يتطلب جهداً مستمراً حتى إنتاج القطعة. تتذكر بهيجة سلمون (أم محمد) الماضي بحسرة مع العديد من صديقاتها في تلك الأيام. تقول لـ”963+”: “كنا نتبادل الأحاديث خلال العمل، بعضنا يغني أو يحكي قصة. كانت أياماً جميلة، يحيط بنا الأطفال والأولاد، فيتشربون المهنة في الصغر”.
ويتوارث أهالي القرية إنتاج الحرير، ويحرص العديد منهم على تعليم أبنائهم أصول الحرفة. وتتذكر أم محمد كيف عملت أولادها هذه المهنة التي كانت مصدر رزق لعائلتها. تقول: “تعلم أولادي صناعة الحرير منذ طفولتهم واليوم يعملون أولادهم. هذه هي دورة حياة المهنة لدينا”.
وضع المهنة حالياً
اليوم، تعدّ العائلات التي تعمل في تربية دودة القز والحرير على الأصابع. وبعد اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، لم تسلم المهنة من نيران الحرب.
يقول عباس إن تربية دود القز وإنتاج الحرير في القرية تراجع بشكل كبير مع انقطاع البذور وقلة أشجار التوت وتخلي بعض المربين عن مهنتهم في ظل هذا الوضع، “واليوم، يتلقى المربون بذوراً محلية، وهذا دفع أهالي القرية للعودة إلى التربية، لكن هذه البذور تعطي 20 كيلوغراماً من الشرانق، بينما تنتج الأجنبية 60 إلى 70 كيلوغراماً”.
فقد أعلنت غرفة زراعة دمشق وريفها عن استيراد بيوض دودة القز من الهند، بعد انقطاع أكثر من 12 عاماً، حيث يبلغ سعر علبة البيض التي تضم 30 ألف بيضة 350000 ليرة (23 دولاراً تقريباً).
وعادت عجلة تربية دودة القز إلى الدوران، لكن ببطء شديد، حيث واجه المربون صعوبة في تسويق منتجاتهم لعزوف الناس عن شرائها، مع تراجع القدرة الشرائية في ظل الوضع الاقتصادي السيء.
يضيف عباس: “في السنتين الأخيرتين، صار الوضع أفضل مع تحسن البذور وعودة المربين إلى العمل، ومع المشاركة في المعارض ومحاولة تسويق المنتجات بأي فعالية تتاح أمامهم”.
فعاليات ومبادرات
من الفعاليات التي شارك بها الأهالي مهرجان “بأيدنا” في قلعة دمشق، ومعرض دمشق الدولي، ومهرجان “أيام العسل والحرير” في كنيسة الصليب الدمشقية، ومهرجان “طريق الحرير” في حلب ودمشق، ومهرجان “الربيع” في حماة، وغيرها الكثير.
رافق ذلك إقامة مبادرات عدة داخل القرية أو المحافظة للتعريف بالحرير الطبيعي والحفاظ عليه. كما أقامت فرقة “تراث دير ماما” فعاليات للهدف ذاته، ونظمت جولات للأطفال من مناطق مختلفة للتعريف بالمهنة ومنتجات الحرير.
الوضع صعب، إلا أن عباس يؤكد تمسك الأهالي بهذه المهنة، قائلاً: “صارت جزءاً من تراثهم وهويتهم الثقافية، وعلى الرغم من الصعوبات، لم ينقطعوا عن تربيتها في أي سنة، فهم مصرون على الاستمرار فيها”.
يضيف: “كانت جدتي تخصص غرفتين من بيتها لتربية دودة القز، بينما يعيش باقي أفراد العائلة في غرفة واحدة… وصعب أن يتخلى الأهالي عن الحرير”.
ويأمل المربون بأن يكون هذا الموسم أفضل من غيره، حيث اعتبره البعض “مبشراً”، لكنهم يطالبون بالدعم وتوفير مستلزمات صناعة الحرير وتعليم المهنة للأجيال المقبلة من خلال دورات تدريبية في المراكز الثقافية وغيرها.