أن تغتال إسرائيل اثنين من أهم قيادات المنظمات المعادية لها في ليلة واحدة، لهو خبر مدمر لـ”محور الممانعة”، بقدر ما هو خبر يلقي الضوء على قدرة إسرائيل التكنولوجية والعملياتية المهولة في قيادة حربها.
قتلت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لـ”حركة حماس” إسماعيل هنية في طهران، وذلك بعد ساعات قليلة من اغتيالها “العسكري الأول” في منظمة “حزب الله” فؤاد شكر. بدت قوى “المحور” وهنة وضعيفة بعد خسارتها لرجلين أساسيين يشهران العداء لإسرائيل منذ سنوات طويلة. في المقابل، بدت الاغتيالات عمليتين سهلتين جداً على هذه الأخيرة، بعدما أعلنت تل أبيب نيتها الرد على مقتل أطفال في قرية مجدل شمس في منطقة الجولان شمال إسرائيل، محددة سلفاً التاريخ التقريبي لعملياتها، وحتى حدودها.
لم تكن الجغرافيا عائقاً أمام القدرة الحربية لإسرائيل. ليس بُعد طهران الجغرافي عن إسرائيل بأزمة حقيقية لصواريخها، فيما عشوائية مباني الضاحية الجنوبية لبيروت حيث اغتيل شكر لم تشكل أزمة جمع معلومات واقتفاء أثر القائد في “حزب الله”.
القدرة العملياتية للجيش الإسرائيلي كما معلوماته الدقيقة أمران واضحان لكل مراقب، تماماً كما هو ضعف “محور الممانعة” الذي يناصب إسرائيل العداء. نظرة سريعة على قوى هذا “المحور” تفيد بأنها ماردٌ من ورق، فحيناً يموت الرئيس الإيراني بتحطم طائرته الخاصة “بظروف غامضة”، فيما تغتال تل أبيب أي قائد عسكري تشتهيه أكان في سوريا، العراق أو لبنان، أحياناً أخرى، أو تقصف اليمن البعيد عن إسرائيل بطائراتها، كما فعلت عندما هاجمت مدينة الحديدة اليمنية في 20 تموز/يوليو الماضي.
السطوة الإسرائيلية على سماء المنطقة وجمع المعلومات الدقيقة يقابلها وهن لدى القوة المعادية لها. ما الذي حققته “حركة حماس” أو “حزب الله” من كل الحروب التي خاضوها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تاريخ عملية “طوفان الأقصى”، غير إزهاق المزيد من الدماء؟ وما الذي تحقق غير إعطاء الذرائع لإسرائيل لتمارس المزيد من القتل والتدمير وتتلقى العطف الدولي من حليفها الأميركي؟ فحتى المرشحان للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب وكامالا هاريس، يتسابقان لإعلان التضامن مع إسرائيل، فيما قالت هذه الأخيرة ليلة اغتيال هنية وشكر إنه “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بوجه ما تتعرض له من مخاطر”.
من الجلي أن طبيعة الحرب الدائرة الآن تنطوي على عبثية لا تنتهي. فحينما تتوالى الأحداث وتتساقط القيادات وتستمر الهجمات، يصبح واضحاً أن النتيجة الوحيدة لهذه النزاعات هي المزيد من الدماء والمزيد من الدمار، فيما تظل الأسباب الحقيقية والمصالح وراء هذه الحروب، إن وجدت حقاً، مخفية في الظلال.
إسرائيل، بما تمتلكه من قدرات تكنولوجية فائقة، تستمر في تحقيق أهدافها العسكرية بأقل خسائر ممكنة، لكن الثمن الإنساني لهذه الحروب يبقى باهظاً، لا عليها طبعاً بل على خصومها. في المقابل، القوى المعادية لها، مثل “حركة حماس” و”حزب الله”، تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تسعى فقط إلى الوجود في ساحة المعركة بغض النظر عن التكلفة البشرية والدمار الذي قد يلحق بها أو بالسكان. ليست غاية هؤلاء الربح والانتصار، بقدر ما تبدو غايتهم البقاء في الميدان، بانتظار تسوية ما أو حلّ قادم. في الحقيقة، إن الصراع العسكري بذاته ليس وسيلة لتحقيق نصر حاسم بالنسبة لهم، بل هو غاية في حد ذاته. بقاء هذه المنظمات في حالة صراع دائم يعزز من شرعيتها ويبرر وجودها المستمر في الساحة السياسية والعسكرية. إن استمرار العداء والعمليات العسكرية يمنحها الدعم الشعبي ويعزز من موقفها في مواجهة خصومها الداخليين والخارجيين، لا أكثر.
عبثية الحرب تظهر بوضوح في تكرار نفس السيناريوهات المأساوية منذ أشهر. لا تحقق الحروب سوى معاناة المدنيين وتشريد الآلاف من الأبرياء، بينما تظل القيادات السياسية بعيدة عن الميدان، تخطط للمعارك القادمة دون أن تتأثر، إلا نادراً، بالخسائر الفادحة التي يعاني منها الناس. أي معاناة أكبر مما يعانيه اليوم أبناء قطاع غزة المدمر والمحاصر؟ أيحتاج الصراع مع إسرائيل وفتح الحرب عليها كل هذا الدمار الذي حلّ بالشعب الفلسطيني؟
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تاريخ عملية “طوفان الأقصى”، لم تحقق “حركة حماس” أو “حزب الله” أي تقدم ملموس على الأرض. بل على العكس، أضفت هذه العمليات المزيد من الشرعية على الهجمات الإسرائيلية وجعلتها تحظى بدعم أكبر من المجتمع الدولي، خاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والهند وغيرها. تتكرر نفس الدورة المأساوية: أعمال عنف، ردود فعل عنيفة، ثم تهدئة مؤقتة، يليها انفجار جديد للعنف وبعض الاغتيالات.
في النهاية، يتساءل المرء عن جدوى هذه الحروب ومن المستفيد الحقيقي منها. تتضح عبثيتها حينما ندرك أن الطرفين المتحاربين يخسران أكثر مما يربحان. وما بين صواريخ تطلق ومبانٍ تدمر، تضيع الأرواح البريئة، وتتسع الهوة بين الشعوب، ويتعاظم الحقد والكراهية، فيما تظل الأسباب الحقيقية للنزاع بعيدة عن الحلول الجذرية.
ما الذي تحقق من كل هذه الحروب؟ لا شيء سوى المزيد من الأيتام والأرامل، والمزيد من البيوت المدمرة، والمزيد من القلوب المحطمة. الحرب، بعبثيتها، لا تميّز بين محارب ومدني، بين طفل وشيخ، بين حلم وحقيقة. هي مطحنة أرواح تهرس الجميع، أبرياء وقادة، وتترك وراءها أرضاً جرداء من الأمل والسلام.