رانيا محمد وقتيبة عزام
“في كل العالم، يولّدون الكهرباء من الماء، إلا عندنا… يولّدون الماء من الكهرباء”. لا مبرر للضحك، فهذا عنوان المأساة في سوريا اليوم. فأبو محمود ما عاد يصدق أن انقطاع الكهرباء هو السبب الحقيقي “لمزراب الليرات التي أصرفها على الصهريج”، كما يقول لـ”963+”. فمنذ أول حزيران / يونيو الماضي، طالت ساعات تقنين المياه في حي المزة 86 بدمشق حيث يسكن مع عائلة مؤلفة من 8 أفراد. يضيف: “أشتري خزان مياه سعة خمسة براميل أسبوعياً، بسعر 75 ألف ليرة (مايعادل 5 دولار)، وانا متقاعد لا يزيد راتبي التقاعدي على 350 ألف ليرة شهرياً(مايعادل 23.3 دولار)، أي أن راتبي لا يكفيني شراء مياه شرب لبيتي”.
رفع أبو محمود شكواه إلى مؤسسة المياه في دمشق، فأجابوه أن العطل طارئ بسبب انقطاع التيار الكهربائي، “لكن، كيف يكون العطل عندنا والمياه تطوف نهراً في أحياء مجاورة، حتى أن الشباب يغسلون بها سياراتهم، أو يرشونها على الأرصفة… لتبريد الشوارع في هذا الحرّ”.
شماعة المسؤولين
صار الانقطاع في التيار الكهربائي شماعة يعلق عليها المسؤولون فشلهم في تلبية حاجات المواطن الدمشقي من المياه. يقولون إن التقنين الكهربائي الطويل لا يسمح باستجرار كميات كافية من المياه إلى خزانات الأحياء، إضافة إلى أعطال في المضخات بسبب عدم انتظام الكهرباء أيضاً. لكن، “ماذا عن تلاعب موظفي المياه بتوقيت تغذية الأحياء تبعاً لمن يدفع لهم أكثر؟”، كما تسأل وفاء، التي تقطن في مدينة الحسينية جنوبي دمشق. تقول لـ”963+”: “المياه تأتي خفيفة بلا ضغط، 8 ساعات في كل أسبوع، فيضطر زوجي لتعبئة خزانين أسبوعياً”
أما يوسف، القاطن في جرمانا بريف دمشق، فيضيف إلى ما سبق “شتيمة” لأصحاب الصهاريج، إذ يصفهم بأنهم “تجار الأزمات عديمو الضمير”. يقول لـ”963+”: “أسعارهم تتقلب تبعاً لشدة التقنين والعرض والطلب. أحياناً أشتري خزاناً سعة 5 براميل بسعر 35 ألف ليرة (مايعادل 2.5 دولار)، وأحياناً يصل السعر إلى 50 ألف ليرة (مايعادل 3.3 دولار)”. ويوسف هذا لا يريد إلا شيئاً واحداً: “لماذا يتركون باعة المياه بلا رقابة؟”.
يجيبه أبو فؤاد، أحد مالكي الصهاريج، قائلاً: “إننا مظلومون. فعملنا موسمي يدوم أشهراً عدة في العام، وسعر صهريج المياه يبدأ من 250 مليون ليرة (مايعادل 16600 دولار)، وتكاليف الصيانة تتضاعف يوماً بعد يوم، فسعر الإطار الكبير من النوع الوسط يتجاوز 1,5 مليون ليرة (مايعادل 100 دولار)، وتغيير الزيت يبدأ من 400 ألف ليرة (مايعادل 26.6 دولار)”. يضيف: “لدينا عائلات علينا أن نؤمن لها احتياجاتها، والجميع يعلم بحال الأسعار في أسواقنا”.
ويقول مصدر في مياه دمشق إن الرقابة على تسعير مياه الصهاريج وصلاحيتها من مسؤولية البلديات، “ولا يوجد تسعيرة ثابتة للصهريج، كما تحدد البلديات السعر وفق المسافة التي يقطعها الصهريج للتزود بالمياه”.
أصحاب شأن وتلوث
إلى جانب تجارة صهاريج الماء، انتعشت مهنة بيع الثلج – أو ألواح “البوظ” – في دمشق وريفها، مع الارتفاع غير المسبوق في درجات الحرارة. يقول عماد، من سكان ريف دمشق، لـ”963+”: “صار هؤلاء أصحاب شأن، كيف لا وهم يتصرفون كأنهم أولياء نعمة هذا الشعب، يسبغون عليه البرد والسلام”، مضيفاً أن سعر “قطعة بوظ” لا يتجاوز وزنها كيلوغراماً واحداً “لا يقل عن 4000 ليرة (مايعادل 20 سنت)، وهذا مبلغ كبير، فما يبيعوننا إياه هو ماء… وملوّث أيضاً، فمن يدري من أي مكان يملأون دلاءهم بالماء ويثلّجونها”.
وتعلن مديرية الشؤون الصحية بدمشق عن قيامها بأخذ عينات عشوائية من قوالب الثلج للتأكد من مطابقتها للمواصفات القياسية وصلاحيتها للاستخدام البشري، مع تأكيدها أن بيع قوالب الثلج مكشوفة في الشوارع وعلى البسطات غير قانوني. وأكد مصدر في المديرية لـ”963+” تنظيم “50 مخالفة بألواح ثلج غير صالحة للاستهلاك البشري خلال الشهرين الماضيين”.
وفي السياق نفسه، يقول المصدر في مياه دمشق إن وحدات المياه، بالتعاون مع الشؤون الصحية، تأخذ عينات عشوائية لتحليلها، “وتم منذ بداية العام تنظيم 35 مخالفة بحق أصحاب الصهاريج لاكتشاف عدم صلاحيتها ومطابقتها للمواصفات الصحية، علماً أن أغلبية المخالفات قائمة في محافظة ريف دمشق”.
آبار في ريف دمشق
الوضع نفسه في ريف العاصمة. يقول المصدر نفسه في مياه دمشق إن ضخ المياه في محافظة ريف دمشق يتأثر بعوامل الكهرباء والمحروقات، كاشفاً عن تعاون المؤسسة مع المجتمع المحلي والمنظمات الدولية لتنفيذ مشاريع تحسّن واقع الضخ في المحافظة، “بحفر آبار جديدة أو تغذية الآبار الارتوازية القائمة بأنظمة طاقة شمسية، وقد تم منذ بداية العام الحالي حتى تاريخه تزويد نحو 15 بئراً ارتوازياً بأنظمة طاقة شمسية، ليزيد عدد الآبار المغذاة بالطاقة البديلة في المحافظة على 90 بئراً، كما تم حفر 9 آبار جديدة”.
يضيف هذا المصدر أن المؤسسة تسعى إلى التعاون مع كهرباء ريف دمشق لربط آبار ومحطات مياه بخطوط معفية من تقنين الكهرباء، “إلا أن هذا الخيار مكلف جداً”.
فساد وسرقة في السويداء
لا يقتصر العطش على دمشق وريفها. فالشكوى متصاعدة في جنوب سوريا، حيث الأزمة مشابهة، والحجج مشابهة، والحلول معدومة. لكن السؤال الذي يرفعه مؤيد فياض، عضو الهيئة الاجتماعية للعمل الوطني في مدينة السويداء، لـ”963+”، هو: “كيف تعطش هذه المحافظة وهي تقع على حوضين من المياه، اليرموك والأزرق، وقد بني 20 سداً مائياً بحجم تخزين يبلغ 51 مليون متر مكعب، وتملك مؤسسة المياه فيها 327 بئراً، إضافة إلى 140 بئراً تابعة لمديرية الموارد المائية ومديرية الزراعة؟”.
سؤال بديهي، الجواب عنه منقول: مؤسسة مياه السويداء تبرر تفاقم أزمة المياه في المحافظة “بانقطاع التيار الكهربائي ساعات طويلة”. ولكن… يقول مهندس الكهرباء فايد عزام لـ”963+” إن انقطاع الكهرباء ليس السبب الرئيسي لأزمة مياه الشرب، “إنما هو الفساد وسرقة المال العام”، إضافة إلى مخطط الحكومة السورية تعطيش أهل المحافظة عقاباً على حراكها المدني السلمي.
ثمة ظاهر وباطن في هذه المسألة. يقول عامر زيدان، الموظف في مؤسسة مياه السويداء، لـ”963+” إن انقطاع الكهرباء هو السبب الظاهر للأزمة، أما السبب الخفي هو احتراق محركات المضخات بسبب سوء نوعيتها وتراجع صيانتها، على الرغم من ملايين الليرات التي تدفع لشرائها ولمعالجة أعطالها”. وبحسب احصائية دقيقة أجراها زيدان، المعدل الشهري للأعطال هو 40 مضخة مياه، “وفي الشهر التاسع من عام 2023، تعطلت 110 آبار دفعة واحدة”.
ويتحدث زيدان عن مجموعة وصفها بـ”المافيا” تستفيد من هذه الأعطال، تتعاون مع “مافيا” الصهاريج. يقول رواد نوفل لـ”963+”: “الصهريج بـ150 ألف ليرة (مايعادل 10 دولار)، ونحتاج إلى 4 صهاريج شهرياً، ما يعني 600 ألف ليرة شهرياً (مايعادل 45 دولار)”. وهذا السعر هو 3 أضعاف السعر في دمشق.
تقادم في اللاذقية
في بداية تموز / يوليو الجاري، وصلت أزمة مياه الشرب إلى عموم مناطق محافظة اللاذقية على الساحل السوري، تزامناً مع اشتداد موجة الحر. وشدد معظم أعضاء مجلس محافظة اللاذقية على ضرورة تحسين واقع مياه الشرب والري، بحسب صحيفة “الوطن” المقربة من الحكومة السورية، وأشاروا إلى أن هذه المحافظة الساحلية “تعاني من العطش، في ريفها والمدينة، ما يتطلب التحرك لإروائها بحلول جذرية”.
ونسبت الصحيفة إلى ناجي علي، مدير العام لمؤسسة مياه الشرب في اللاذقية، قوله: “واقع المياه في اللاذقية لا يلامس المأمول به، والوضع المائي يتحسن يوماً بعد يوم، لكن هناك صعوبات نواجهها كمؤسسة، بدءاً من تبعية نبع السن للموارد المائية وليس لمؤسسة مياه الشرب، ولا توجد تجهيزات احتياطية عند حدوث أي عطل مفاجئ ضمن النبع”.
يضيف علي: “هناك معاناة من هبوط الترددية ضمن نبع السن وهو الأمر الذي يؤدي بشكل عام لهبوط كمية المياه الواردة وحصول فاقد في بعض الأحيان ينعكس على نهايات الخطوط بضعف مائي عند العديد من المشتركين”، راداً أحد أسباب أزمة المياه، إلى “المعاناة الكهربائية الميكانيكية، خصوصاً في فصل الصيف، وهذا يستدعي الضخ المتكرر لإيصال المياه إلى المستحقين، ما يستلزم توافر التجهيزات بشكل فني ملائم دائماً”.
كذلك، يحمّل الأعطال المفاجئة للتجهيزات التي أصبحت متقادمة بلا قطع غيار جزءاً كبيراً من المسؤولية.