خاص – موسكو
من ينظر ملياً إلى المشهد الثقافي السوري، لا يمكنه أن يغفل النشاط الروسي المتزايد على هذا الصعيد، وخصوصاً الحضور الملحوظ للغة الروسية، باعتراف صريح من سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الذي أعلن الجمعة أن أكثر من 36 ألف تلميذ وطالب سوري “يتعلمون الروسية”، وذلك في افتتاح الخارجية الروسية معرض صور لمناسبة الذكرى الثمانين لبدء العلاقات الديبلوماسية الروسية – السورية.
وفي تسييس واضح، وضع لافروف هذا الأمر في سياق التحالف الوثيق بين البلدين، واصفاً الحكومة السورية بأنها “شريك موسكو الحيوي في الدفاع عن الشعب الروسي ولغته وثقافته”، في إشارة إلى دعم دمشق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
ديبلوماسية ناعمة
انطلق مشروع تعليم الروسية في سوريا تجريبياً في عام 2015، بتطبيقه على نحو 400 تلميذ في الساحل السوري. عممت هذه التجربة لتشمل 217 مدرسة موزعة في 12 محافظة في مناطق الحكومة السورية. وفي عام 2023، تجاوز عدد الطلاب السوريين الذين يتعلمون الروسية 35 ألف طالب، ويدرسهم 200 مدرس، وفقاً لتقارير حكومية سورية. وأتى ذلك استكمالاً لقرار مفاجئ اتخذته وزارة التربية في الحكومة للنظام السورية، قضى بتدريس الروسية ضمن المناهج التعليمية ابتداء من عام 2014.
ويعتبر الديبلوماسي الروسي فيتشسلاف ماتوزوف أن الطلب الكبير على تعلم الروسية في سوريا “دليل واضح على نجاح الديبلوماسية الروسية”، كما يقول لـ “963+”، وهذا برأيه يرفع العلاقات بين البلدين إلى مستوى استراتيجي، راداً التوجه الجديد في الخارجية الروسية إلى رؤية “ناعمة” يقودها لافروف نفسه.
ويضيف ماتوزوف: “تنظر روسيا بارتياح إلى تزايد عدد الطلاب السوريين الذين يتعلمون الروسية، فهذا يعزز حضور الثقافة الروسية في سوريا، التي تهتم بها روسيا تحديداً، ضمن اهتمامها بالشرق الأوسط عموماً، ومن هنا كان التدخل العسكري في سوريا في عام 2015 الذي حال دون سقوط دمشق بيد الإرهاب العالمي”، مؤكداً أن هذا الاهتمام زاد بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، ثم في غزة.
هيمنة واضحة
في مطلع عام 2020، قدّر رضوان رحال، منسق اللغة الروسية في وزارة التربية السورية، في تصريح صحافي وجود أكثر من 24 ألف طالب سوري يتعلمون الروسية، وقال إن الوزارة “أضافت الروسية كلغة أجنبية اختيارية في المدارس بعد الإنكليزية أو الفرنسية في عام 2014″، أي قبل التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا في عام 2015، كما افتتحت وزارة التعليم العالي السورية في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 قسماً خاصاً باللغة الروسية وآدابها، ضمن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق.
إلا أن تعليم الروسية في سوريا ليس جديداً، بل موجود منذ العهد السوفياتي من خلال المركز الثقافي الروسي الذي قاد التبادل الثقافي والفني بين البلدين، “لكن الوضع اليوم يتجاوز التبادل الثقافي”، بحسب الصحفي السوري زياد الريس، الذي يضيف لـ”963+”: “روسيا مهتمة اليوم بإيجاد شريحة سورية واسعة تجيد الروسية، فذلك يساعد موسكو في إطباق سيطرتها على مفاصل الحياة السورية، تعليمياً وثقافياً أولاً، واقتصادياً واجتماعياً تالياً، من خلال بناء كوادر بشرية سورية الجنسية روسية الهوى، تعمل لخدمة روسيا، وخصوصاً اليوم في ظل تنافس سياسي واضح بين روسيا وإيران على الهيمنة على سوريا وقرارها”.
ويلاحظ الريس أن أغلبية السوريين الذين يتعلمون الروسية “موالون للحكومة السورية، ويرون في ذلك ما يزيد فرصهم لتبوء مناصب عليا، ما دامت هيمنة الروس على الاقتصاد السوري حقيقةً لا يمكن تجاهلها”.
ولاءات جزئية
في أيلول/سبتمبر 2018، افتتحت في دمشق أول مدرسة روسية بالكامل في الشرق الأوسط، “ومنذ ذلك الحين، بدأ التغلغل الروسي الفعلي في تفاصيل المجتمع السوري”، كما تقول هدى الشعيب، المسؤولة التربوية السابقة في محافظة السويداء.
وتضيف الشعيب لـ”963+”: “وضت هذه المدرسة في خانة تعزيز التعاون الإنساني والثقافي الروسي – السوري، وركز الإعلام على أنها ستعتمد مناهج روسية مترجمة إلى العربية، لكن لم نعرف تماماً كم نجحت هذه التجربة، خصوصاً أن فئات واسعة في الشعب السوري، حتى في المناطق الخاضعة للحكومة السورية، تعرف أن هذه المدرسة ليست إلا ستاراً لتوجهات توسعية أخرى”، مذكرةً بأن الغزو الثقافي أخطر كثيراً من الغزو العسكري، “علماً أن الروس موجودين في سوريا بطلب رسمي من الحكومة السورية، التي كانت على قاب قوسي أو أدنى من السقوط، لولا المساعدة الروسية والإيرانية”.
توافق الشعيب ما يقوله الريس بشأن إدراج توسّع تعليم الروسية في سوريا ضمن التنافس الفعلي بين روسيا وإيران. تقول: “هذا الأمر هو الجانب الثاني من معادلة ’روسيا أو إيران‘، وتعليم الروسية في المناهج السورية الرسمية هو البديل الآخر للمدارس التي تنتشر في أنحاء سوريا مبشرة بالتشيّع الإمامي، وناشرةً الولاء لإيران”.
وترد الشعيب ذلك كله إلى “ما نحن فيه من ضعف وانقسام، فلولا ذلك لما صارت سوريا في مهب التنافس بين موسكو وطهران”، مضيفة: “لا يمكننا لوم الروس على نواياهم التغلغل في النسيج الاجتماعي السوري، ولا الإيرانيين على اندساسهم في صفوفنا، ولا الأتراك على التتريك الثقافي للمناطق الخاضعة لهم في الشمال السوري، إنما نحن من يجب أن يُلام، لأن أزمة الهوية والولاء في سوريا ناتجة من قصور تربوي فظيع، يقدم الولاءات الجزئية المختلفة، من حزبية ومناطقية، على الولاء الكلي للوطن”.