خاص – محي الدين ملك / دمشق
الحرب، كما في القاموس العملي للقانون الإنساني، “ظاهرة العنف الجماعي المُنَظَّمِ التي تؤثر إما في العلاقات بين مجتمعين أو أكثر، أو تؤثر في علاقات القوة داخل المجتمع، وتخضع لقانون النزاع المسلح”.
لا شك في أن الحرب تترك آثارها المدمرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للإنسان، فضلاً عن تأثيرها في الثقافة والفن في حالته التعبيرية التي لا تتنكر لمأزق الفنان، بين رؤيا الخراب ورؤية اللوحة.
الفنان، بهذا المعنى، اختزنَ الحرب، وتأثر بها. فما هي إمكاناته الفنية للتعبير عن الآثار المرئية وغير المرئية؟ وكيف تغيَّر أسلوب الرسم؟ وبأي صيغةٍ يمكن الحوار مع الشكل والمضمون؟ بالمختصر، كيف تُرجمتْ الحرب “تشكيلياً”؟ وكيف يمكن تشكيل هويةٍ فنيةٍ في زمن الهويات “المتشظية”؟
الجواب المتعدد عن السؤال تأملٌ في الحرب السورية واستطالاتها العنيفة المستمرة، ومصاحبتها في أفقٍ فنيٍ – تشكيليٍ، رغبةٌ في إمكانية استجلاء أثرها في تجربة بعض الفنانين. ربما لن يكون الجواب بحجم الكارثة والألم، لكنه مُتَّصِل بمساءلة الحرب، والصراع مع الأشكال الفنية والنفسية معاً.
إفراط في الفجاجة
في مقاربة نقدية، يرى الناقد سامي داوود، المُنشغل بالحداثة كمُختَبَرٍ لمعالجة خطاب الفنون وفهمه، أن التعبير، مهما كانت وسائطه، يصعبُ عليه تجسيد الحرب في كُلِّيتها المعقدة وطبيعتها المتداخلة بكل مستويات التاريخ الاجتماعي. من هنا، فإن “الفنون تُقدِّم موضوعات الحرب وتتخلَّف باستمرار، من وجهةِ شكلانيةٍ مَحضةٍ، عن تعديلِ سُبُلِها التعبيرية”.
يضيف لـ”963+”: “لعدم القدرة على الإجابة فنياً عن هكذا سؤال، يلجأ الفنان إلى الموضوع في فجاجته المفرطة، كتقديمِ بناءٍ مُهَدَّمٍ بالقصف، ومقاربتهِ بلوحةٍ فنيةٍ أخرى مُدَّعياً خَلْقَ ترميزٍ ثقافيٍ للعنف في الحرب. ضرورة الصمت لتأملِ دويِّ الدمار بصرياً ولغوياً وجغرافياً هو مبتدأ التعبير عن الحرب كلغةٍ جديدةٍ، لذلك نجد وفرة في الأعمال المُتَّكئة على فكرة الحرب، لكنها ليست سوى تعبيراً على عجزها عن تجسيدِ الحرب”.
ضيق سيكولوجي
ينطلق الفنان عبد الناصر رجوب من تجربةٍ خاصةٍ متصلة بالحرب، يقول لـ”963+”: “سألت نفسي دائماً: لماذا أرسم بهذا الشكل وهذا المضمون؟ وكان الجواب: الهروب والخلاص. عندما اشتدت الحرب وتضاعفتْ، كنت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أترك كل شيءٍ وأحافظ على ما تبقى منّي، أو أظل أُفكر بتداعيات الحرب فأموت هماً وغماً من المأساة التي حلَّتْ. فانطويت على نفسي في عزلةٍ شديدةٍ وكآبةٍ خانقةٍ، وبدأت أرسم على قِطَعٍ خشب صغيرة قياس 10 × 10 تقريباً، في إشارة إلى وقوعنا في حصارٍ خانقٍ وسجنٍ ضَيِّقٍ. كانت هذه المساحة السيكولوجية الصغيرة والضَّيقة تُلبّي حاجتي العميقةِ والمُلحَّةِ، فعدّتُّ إلى ذاكرتي البصرية التي تعجُّ بصور الطبيعة، ورسمت”.
ويضيف: “ما فكرت بعرض هذه اللوحات في سوريا، بل عرضُّتها في السويد في عام 2018، وفي نيوزيلندا في عام 2022. وكأنني قمتُ بتصدير أحاسيسي خارج البلد، بعيداً عن هذه الخراب، في محاولة منّي لخلق عالم افتراضي يتجاوز واقعنا المريب، وبإيقاع فنيٍّ يُعبر عن هذا الهذيان الشخصي، وعن القيم الجمالية التي كوَّنتْ شخصيتي الفنية”.
بقايا وبدائل
عاش الفنان محمد العلبي الحرب لحظة بلحظة، فخاف من السقوط في الظلام. حاول أن يتمسَّك بأيِ شيءٍ يُنقِذه، وما تبقى من عمله الفني عن الحرب هو من أثرِ السقوط. هكذا يقول لـ”963+”.
ويضيف: “في لوحاتي بقايا أجسادٍ، وطيورٍ، ونباتٍ، وعمارةٍ، وبُقَعٍ، وثقوبٍ، وشظايا، ولحظة اختراق الصوت حاجز الدهشة من هولِ الفاجعة. لم أكن بعيداً عن هذه التفاصيل، كنت أعيشها، حتى احتلت داخلي. حاولت أن ألقيها في أتون اللوحة، عسى أن أتخلص من عبء هذه الصور، بعناوينها التي لا تُكتب ولا تُقرأ”.
ويتحدَّث النحات مهند ديب عن تجربته الفنية التي انتقلت من حالةٍ إلى أخرى لتتجاوب مع الإبدالات الجديدة، يقول لـ”963+”: “قبل الحرب، أقمتُ العديد من ورشاتٍ فنيةٍ ومعارض لأعمالي، وعقوداً لتنفيذ أعمالٍ ضخمةٍ من أجل تجميل الأماكن العامة، باستخدام مادة الإسمنت. لكن، توقف كل شيء، بعد أن بدأت الحرب واشتدت، فصار من المُخجل التفكير في مثل هذه المشاريع”.
ويتابع: “أجبرتني ظروف الحرب للبحث عن موادٍ بديلةٍ، فكانت مخلفات الحرب، كزجاج النوافذ وبلور الواجهات المكسور بسبب تفجير حدثَ أو قذيفة سقطتْ، في مكان ما، ونعيد تدوير هذه القِطَع الزجاجية ونصنع منها عناصر الإنارة – ضمن مفهوم الفن التطبيقي. والمؤلم هو أنني مازلت أتذكَّر بعض القِطَعِ وعليها آثار الدماء”.
في معنى الفن
أما الفنان زافين يوسف فيرى أنّ لا كلمات “تُعبِّر عن المأساة التي عشناها، وما نزال نعيشها. فالحرب موجودة في الماضي، وباقية في الحاضر والمستقبل، ما دام الإنسان موجوداً، ومطبوعاً بالنزعة التدميرية والسيطرة”.
يقول لـ”963+”: “في هذه المأساة، صار الفن الملجأ الوحيد، إلى حدٍّ ما، وهروباً من الواقع، وحالة تعبير، وتفريغاً، وقليلاً من التوازن، مع انشغالي الدائم بسؤال: ما معنى الفن؟!”.
ويضيف: “أرسمُ الأشجار من منطقي الفني، بعيداً عن التقليد أو المحاكاة. أُحبُّ هذا العنصر الطبيعي، لأنه يناسب مزاجي الفني والنفسي، ومع الأيام تشكلَّت منها مفاهيم تخصُّني، كمرايا عاكسة للروح، وفي ذات الوقت تَحْمِلُ معاني العزلة والوحدة والحزن والألم والقلق، وهي معانٍ نعيشها، لذا، أعتبرها كائنات جميلة”.
بلا جاذبية
بالنسبة إلى الفنانة ريام الحاج، كان أثر الحرب في بعض أعمالها الفنية إيجابياً، ومحاولة لخلق عوالم جديدة من إفرازات الحرب، بكل أشكالها وآثارها في النفس، إضافة إلى موضوع الجسد. تقول لـ”963+”: “حاولتُ تجسيد فكرةِ حضورِ الجسدِ وأهميته وعلاقته بالمساحات اللونية، وخلق فضاء وعوالم جديدة من تحت الأنقاض، بالتركيز على حضور الجسد المتعب وعلاقته بالألوان الصاخبة، مع تقنيات أخرى”.
وعن طبيعة شخوصها، تقول: “تتسم بالخفة وتكاد تخلو من الجاذبية، للتعبير عن حالة عدم الاستقرار والضياع، إضافة إلى محاولة تحرير اللون الكثيف بضرباتِ الريشةِ القويةِ، للتأكيد على مركزية الجسد وأهميته. وكل هذه التناقضات تعبيرٌ صارخٌ عن أزمة الوجود”.
بهذه الإجابات المفتوحة لتجربة الفنان السوري، كشكلٍ ومضمونٍ، وكحالةٍ تعبيريةٍ، يبقى السؤال في مواجهة ما. مواجهة، وجهاً لوجه، أمام: كيف؟ ولِما؟ وإلى متى؟