تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة، بشأن إمكانية دعوة رئيس النظام السوري بشار الأسد لعقد اجتماع ثنائي برعاية روسية، ليس فيها ما يدعو للدهشة أو الاستغراب، بل الغريب أنها فاجأت بعضهم، إلى درجة عدّها “انعطافة” حادّة في السياسة التركية. لعلّ هؤلاء نسوا (أو ربما تناسوا) أنّ أردوغان نفسه سبق وأعلن، في 5 كانون الثاني/ يناير 2023، عن نية محتملة لهذا اللقاء، تحت مسمّى “توسيع عملية السلام”. إنّ تصريحه مطلع العام الماضي وما صدر عنه مؤخراً، لم يكونا نتاج لحظة تحوّل وانقطاع، وإنما جاءا ضمن سياق ابتدأ منذ سنوات، تولّدت خلالها معطيات مركّبة على أكثر من صعيد، أدّت إلى تغيّر تدريجي ملحوظ في الخطاب السياسي والإعلامي، ثم السلوك التركي في سوريا، بصورة تختلف عمّا كان الحال عليه في السنوات من 2011 وحتى 2015، من عدائية صريحة معلنة ولهجة تحقيرية استفزازية، على لسان أردوغان وكبار المسؤولين الأتراك، استهدفت نظام الأسد وشخصه، ليتوّج ذلك التحوّل المتدرّج بهذه الدبلوماسية التركية التصالحية والمتودّدة تجاه عدوّ الأمس.
يمكن ربط تغيّر المعادلات وحسابات المصالح التركية بجملة من العناصر، اتضحت بصورة أكبر بعد التدخّل العسكري الروسي المباشر في سوريا، صيف عام 2015، وأنضجها التقارب الذي حصل بين موسكو وأنقرة، لإنهاء فترة توتّر بين الجانبين على خلفية التطوّرات السورية، وصولاً إلى انخراط تركيا بقوّة مع حماة النظام الروس والإيرانيين، في مسار آستانة واتفاقيات “خفض التصعيد”، بما تضمّنته من بنود تتصل بمحاربة الإرهاب، والتنسيق بين الأطراف الثلاثة في هذا الشأن. من جهة ثانية، نجاح مقاتلي أطراف كردية سوريّة بينها حزب الإتحاد الديموقراطي PYD، بدءاً من عام 2012، في السيطرة على مناطق شمال شرق سوريا، ثم تأسيس إدارة ذاتية تحظى بدعم غربي واضح، شكّل عامل ضغط أمني وسياسي للأتراك، ما ساهم في إعادة ترتيب أولوياتهم في سوريا. ورغم أن “الإدارة الذاتية” تنفي صلاتها بحزب العمال الكردستاني PKK، لكن تركيا تجد فيها تهديداً خطيراً من منظور “الأمن القومي”.
منذ ذلك الحين، تكرّرت دعوات تركيا للحوار مع النظام السوري، والتشديد على “الحل السياسي للأزمة السورية”، بالتوازي مع فرض وقائع على الأرض، في المناطق التي سيطرت عليها قواتها والفصائل المسلحة السورية التابعة لها. كانت أولى بوادر “الحوار” لقاءات على مستويات مختلفة، أمنية وسياسية، بين مسؤولين أتراك وسوريين، مباشرة أو من خلال وسطاء، لعبت فيها موسكو دوراً فاعلاً، وصولاً إلى اجتماع وُصف بـ”الودّي” بين وزيري الدفاع التركي والسوري في موسكو، يوم 28 كانون الأول/ ديسمبر 2022، هو الأعلى مستوى بين الجانبين منذ عام 2011، نوقشت فيه “مشكلة اللاجئين”، ومكافحة “جميع الجماعات الإرهابية” العاملة على الأراضي السورية. وقتها، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بعد اللقاء، إنه أبلغ نظيريه، السوري علي محمود عباس والروسي سيرغي شويغو، أن تركيا “تحترم سلامة أراضي جميع جيرانها وتهدف فقط إلى محاربة الجماعات الإرهابية لحماية حدودها”. يضاف إلى ما سبق، تحسّن العلاقات التركية مع دول عربية، عادت للتطبيع مع نظام الأسد بعد سنوات من دعمها جهود إسقاطه، بتقديم مساعدات مالية وعسكرية ودبلوماسية لفئات من معارضيه، فكان تسارع مسار إعادة العلاقات بين دول عربية ذات تأثير إقليمي، مثل السعودية والإمارات، وبين النظام السوري، وبينها وبين تركيا، سبباً لتنسيق المواقف فيما بينها، والتعاون بصورة أكبر في هذا الملف.
انعكست هذه التطورات سلباً على أوضاع اللاجئين السوريين في تركيا، فبعد سنوات من الاستثمار في ملفهم، وابتزاز الاتحاد الأوروبي لتحصيل المليارات باسمهم، تصاعدت حملات الكراهية والتحريض ضدّهم، في العالم الإفتراضي ووسائل الإعلام كما على أرض الواقع، وازداد عدد الجرائم والاعتداءات الواقعة بحقّهم، في ظل صمت متواطئ من الحكومة التركية والسلطات المحلية، فضلاً عن حالات الترحيل القسري لأعداد متزايدة من السوريين، بعد إجبارهم على توقيع أوراق “العودة الطوعية”، وهو ما ينسجم مع التصريحات والإجراءات الحكومية المستجدّة، تحت عنوان “تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى مناطق آمنة داخل سوريا”. ومعلوم أنّ خطوة كهذه تتطلّب من أردوغان التواصل والتعاون مع نظام الأسد وشركائه لمعالجة هذا الملف، بعدما أصبح عبئاً ثقيلاً عليه في بازار السياسة التركية الداخلية، دون اكتراث للمصير القاتم الذي ينتظر ملايين السوريين، في حال أعيدوا إلى قبضة من كان السبب في تهجيرهم.
منذ أن حطّ قطار “الربيع العربي” في محطّته السورية، وجدها أردوغان فرصة لتحقيق طموحاته التوسعية، مستلهماً سيرة أجداده العثمانيين، في بسط نفوذهم باسم وحدة الدين والمذهب. وهكذا، لم تكن سوريا عنده، بأرضها ولاجئيها ومعارضتها وفصائلها.. سوى ورقة يتلاعب بها شرقاً وغرباً، وفق مصالحه وخدمةً لمشروعه. إنها حقيقة أكّدها الواقع وتطوّر الأحداث مرّة تلو الأخرى، إلّا أنّ الذين تصدّروا المشهد باسم الثورة والمعارضة، واحتكروا هيئاتها التمثيلية المزعومة، أغمضوا أعينهم عن هذه الحقيقة، إذ سيطرت على تفكيرهم وتصرّفاتهم انتهازية سياسية مبتذلة، مغلّفة بأيديولوجية دينية، فاستقووا على أبناء جلدتهم السوريين، وتحوّلوا إلى مرتزقة يسبّحون بحمد السلطان، ويلهجون بفضائله!