تتردّد مها الصالح (ثلاثة أعوام)، إبنة داريا بريف دمشق، مع والدتها إلى جمعية تنظيم الأسرة في ريف دمشق، لتخضع لفحص شهري بشريط يحيط منتصف ذّراعها العلوي، ولقياس طولها ووزنها، ولتستلم مخصّصاتها من البسكويت المدعّم بالفيتامينات وزبدة الفستق، التي توزّعها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) على أطفال أجسادهم هشّة، لا تقوى على الصمود أمام آثار الحرب المستمرة في سورية للعام الرّابع عشر.
وبحسب بيانات الأمم المتحدة، ما زال الأطفال في سوريا يعيشون في خوف من الهجمات والنزوح، ومستويات سوء التغذية ترتفع يوماً بعد يوم. وحذّرت اليونيسف آنذاك من أن الحرب على سورية وكارثة الزلازل الأخيرة “تركت ملايين الأطفال في سورية في خطر متزايد من الإصابة بسوء التغذية، عدا عن 13 ألف طفل بين قتيلٍ وجريحٍ في سورية”.
أعراض وأمراض
وجوه صفراء وأجساد نحيلة وقامات متقزمة… صفات مشتركة في أكثر من 609,900 طفل دون الخامسة يعانون التقزّم في سوريا، وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية. وهذا التقزم ينجم عن “نقص مزمن في التّغذية، ويسبب أضراراً بدنيّة وعقليّة للأطفال لا يمكن التعافي منها، ويؤثر ذلك في قدرتهم على التعلم وفي إنتاجيتهم عند البلوغ”، كما يقول الطبيب أنس كيلاني، المتخصص في طب الأطفال بمشفى دمشق.
ثمة 4 أشكال فرعية شاملة من نقص التغذية: الهزال والتقزم ونقص الوزن ونقص الفيتامينات والمعادن، “والأكثر انتشاراً بينها في سوريا هو الهزال ونقص الفيتامينات”، بحسب كيلاني الذي يضيف لـ”963+”: “سوء التغذية الحاد عند الأطفال في ارتفاع مستمر، فقد ارتفع عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و59 شهراً ويعانون سوء التغذية الحاد الوخيم بنسبة 48 في المئة”، معتمداً على أرقام وإحصائيات تقدمها “اليونيسيف”، مضيفاً: “هذه نسبة خطيرة لأنها تضاعف نسبة الوفاة عندهم”.
فعندما يعاني الطفل سوء التغذية الحاد، تضعف مناعته المكتسبة، ويكون أكثر عرضة للوفاة بمعدل 11 ضعفاً، كما يكون أكثر ميلاً للإصابة بأمراض الكوليرا ونقص المناعة من الأطفال الذين يتمتعون بتغذية جيدة، وأيضاً بحسب “اليونيسيف”.
العلاج بالبيض
ويثير الطبيب أشرف سلامة، رئيس النقطة الطبيّة في داريا بريف دمشق، مسألة مهمة، “هي عمومية لكنها تؤثر كثيراً في قدراتنا على علاج أي حالة مرضية، خصوصاً المرتبطة بسوء التغذية”. ويضيف لـ”963+”: “يتناقص عدد أطباء الأطفال بشكل كبير بسبب الهجرة، فبحسب اليونيسيف، لا يوجد في سوريا كلها أكثر من 20 ألف طبيب من كل الاختصاصات يمارسون الطب في البلاد، وهذا قليل جداً، والأقل منهم أطباء الأطفال”، مؤكداً أن نقص تغذية الطفل يؤدي إلى ارتفاع كبير جداً في خطورة تعرضه للإصابة بالأمراض والوفاة.
وبحسبه، يلجأ الأطباء في المشافي السورية اليوم إلى علاج سوء التغذية “بأقراص الحديد أو بأبر موضعية أو بأكياس للحالات الطارئة”… أو بالبيض!
ويضيف سلامة: “أثبتت الدراسات الحديثة أن البيض غذاء مهم جداً لنمو الأطفال، خلافاً للسبانخ التي تعد أسطورة غذائية كونه غتي بالحديد”. فالبيض لا يدعم نمو الطفل فحسب، بل يعالج الخلل في نموه الناتج من سوء التغذية.
يتابع سلامة: “أكدت دراسة أخيرة نشرتها مجلة ’طب الأطفال‘ (Pediatrics) الأميركية المتخصصة أن ثمة فوائد كثيرة تحت قشر البيض الذي يحتوي على مادة ’الكولين‘. فقد ربط العلماء بين هذه المادة وبين النمو في تجارب حيوانية، إضافة إلى مجموعة من الفيتامينات والبروتينات الحيوانية المهمة لبناء عضلات الجسم في أطوار النمو الأولى”.
مساعدات إنسانية
ماجدة الدّوس ربة منزل قاطنة في صحنايا بريف دمشق، تشكو فقدان المكمّلات الغذائيّة التي اعتاد عليها أطفالها منذ ثلاثة أعوام، “وإن وجدتها، فسعرها خيالي ولا قدرة لي على شرائها” كما تقول، متحسّرةً على خدمات التغذية الوقائيّة التي كانت تنالها من المنظمات الإنسانية، بما فيها المكمّلات والمغذّيات الدقيقة، ومراقبة النمو، والإرشاد في مراكز تنظيم الأسرة والهلال الأحمر ومنظمة اليونيسيف، عدا عن التوعية الصحيّة حول الرضاعة الطبيعيّة والتغذية التكميليّة الملائمة لعمر الأطفال، إضافةً إلى خدمات وإمدادات صحيّة أساسيّة، وحتى المياه النظيفة لمنح المزيد من الأطفال فرصة للبقاء على قيد الحياة”.
وسوء التغذية لم يصب الأطفال وحدهم في سوريا. تقول نور فرواتي، الاختصاصية في التغذية في عيادة تنظيم الأسرة لـ”963+ ” أن البيانات الموجودة تؤكد إصابة النساء أيضاً بهذه الحالة الخطيرة، “وقد تفشى نقص الحديد في الدم، وفقر الدم الشديد، وسوء التغذية لدى الأمهات ليصيب نحو 25 في المئة من المرضى في ريف دمشق وبعض مناطق دمشق النائية”.
وتتطرّق فرواتي إلى سوء حال بعض محطّات معالجة المياه وخروجها عن الخدمة بسبب استهدافها بالعمليات الإرهابية، “ما جعل نحو نصف سكان المناطق المتضررة يعتمدون على مصادر مياه بديلة غير آمنة لتلبية احتياجاتهم من المياه، علماً أن مصادر المياه في سوريا مجهولة، فنحو 70 في المئة من مياه الصرف الصحي غير معالجة، وتم الإبلاغ عن أكثر من 84600 حالة مشتبه بإصابتها بالكوليرا منذ أيلول/سبتمبر 2022″، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
أزمة اقتصاديّة خانقة
بعد كل الشهادات التي وردت، وإن كنا بحاجة إلى دليل دامغ على خطورة هذا الوضع على الجيل الآتي في سوريا، يكفي أن تفيدنا منظمة الصّحة العالميّة نفسها بأن أكثر من 3.75 ملايين طفل في جميع أنحاء البلاد “بحاجة إلى مساعدات غذائيّة، بينما يحتاج نحو 7 ملايين طفل في سوريا إلى مساعدات إنسانية عاجلة”.
وهذا دفع أديل خُضُر، المديرة الإقليمية لمنظمة “اليونيسف” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى رفع الصوت في حديث إعلامي: “لا يمكن أطفال سوريا الانتظار أكثر من ذلك”، فبعد سنوات من النزاع وبعد وزلزالين كارثيّين، “صار مستقبل ملايين الأطفال السوريين معلّقاً بخيط رفيع، ومسؤوليتنا جميعاً أن نؤكد لهؤلاء الأطفال أن أمانهم ومستقبلهم في رأس أولوياتنا”.
تؤكد خُضُر ضرورة الاستجابة لاحتياجات الأطفال في جميع أنحاء سوريا، ودعم الأنظمة التي تقوم عليها الخدمات الأساسية التي يحتاجونها بشدّة، مشيرة إلى أنه قبل كارثة الزلازل، كان نداء اليونيسف للعمل الإنساني من أجل الأطفال في سورية يعاني نقصاً كبيراً في التمويل، “حيث تم تأمين جزء بسيط فقط يعادل 328.5 مليون دولار.