“الفرات يغريني”. بكلمتين فقط، وببلاغة جميلة، يصف كون السالم تعلّقه بصنارة صيد السمك. ومثله كثيرون في دير الزور، حيث يتجاوز صيد الأسماك مسألة الوسيلة لتحقيق غاية “القوت” اليومي إلى شغف متوارث تقليدياً.
فالصيد هنا مهنة عريقة عراقة الفرات، يعمل فيها كون السالم، ابن بلدة هجين بريف دير الزور الشرقي، منذ 15 عامًا، ينزل النهر ليلاً، لأن السمك يطفو على وجه مياه النهر. يقول لـ”963+”: “ورثناها عن آبائنا، وما زلت أستخدم عدة الصيد التقليدية القديمة، لا أغيرها. فزورقي الصغير مزود بمجدافين يدويين، واستخدم الشباك لأجمع سمكاً من كل الأنواع، والديناميت أحياناً، فالفرات ثروتنا، يعطينا الكربة والجري والسلموني والعرموطي”.
الرزق قليل
يضيف: “الصيد مصدر رئيسي لطعامنا، ولحياتنا، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن”، لكنه يشكو أن الرزق قليلٌ، “وليس السبب نهر الفرات، إنما المعارك على محور نهر الفرات التي تمنعنا من الإبحار في النهر”. فهذا ممنوع إلا بإذن عسكري.
يتابع كون السالم: “صارت هذه المهنة محفوفة بالمخاطر، لكنني لا أستطيع التخلي عنها، فهي موردي الوحيد لسد احتياجاتي اليومية، وهي طريقتي في الخلاص من هموم الدنيا ورميها في مياه النهر، حتى أظن السمك في الفرات يبكي لأجلنا حين يسمعنا نشكو مآسينا”.
أما هشام السالم، مسؤول رابطة صيادي دير الزور، فيشير إلى النهر من بعيد، ويقول لـ”963+”: “إننا هنا في مهب الحرب، وتحت رحمة الطبيعة”. ويضيف: ينخفض منسوب مياه الفرات في فصول الجفاف فيقل السمك.. يرمون النفايات والمخلفات الصناعية في الفرات، فيموت السمك.. في الحالتين، تتراجع إنتاجية الصياد، أكان يستخدم الصنارة التقليدية أم الشّباك. قل لي، من يشتري سمكاً من الفرات إن كان الجميع يعلم أن مياه النهر ملوّثة؟”
شغفك أو كفنك؟
بالفعل.. صارت هذه “مهنة الموت”، كما يقول الصياد ناصر علي، من ريف دير الزور الشرقي، لـ”963+”، مضيفاً: “عليك أن تقصد أقرب نقطة عسكرية متمركزة على ضفاف الفرات للحصول على موافقة أمنية، وعليك أن تدفع مقابل هذه الموافقة مالاً كثيراً، أو يشاركك العناصر في ما يرزقك الله من سمك. وفي النهاية، أنت تتعب وهم يأكلون. وإن دفعت للقوات الحكومية، أطلق عناصر الفصائل الموالية لإيران عليك النار، أو لا نعرف من”.
وإن ذهبت إلى النهر، ورميت الشباك من دون إذن؟ يجيب علي: “أكررها لك، إنها مهنة الموت، فكم من صيادٍ تعرضوا لإطلاق النار، والحجة عدم التنسيق مع القوات العسكرية في المنطقة… إنها مهنة تمارس فيها شغفك، وأنت حامل كفنك”.
في هذا الإطار، يؤكد الطبيب مشاري الحزوم، مدير المشفى العام بريف دير الزور الشرقي، تزايد حالات إصابة الصيادين بالطلق الناري، “فقد استقبل المشفى منذ بداية العام الجاري 15 حالة، منها 7 حالات انتهت بالوفاة”.
ويضيف الحزوم لـ”963+”: “أخشى زيادة حالات الإصابة بالطلقات النارية بسبب عدم وجود تنسيق بين السلطات وصيادي الأسماك، لذا أطالب بأمر من اثنين: حظر صيد الأسماك نهائياً، أو منح الصيادي صلاحيات خاصة فلا يتعرضون لإطلاق النار، الذي يكون غالبًا مقصوداً”.
حسناً.. إن تحسن الوضع الأمني، فهل يمكن صياد السمك أن يعيش بكرامة من صيده؟ “نعم”. هكذا يجيب هشام السالم، مضيفاً: “نستطيع العيش من صيد الأسماك في بعض المواسم، يكون فيها الفرات سخياً، حتى أن بعض الصيادين في مواسم الخير يصدرون قسماً من صيدهم إلى المناطق المجاورة”، لكن هذه فرصة نادرة بسبب المنافسة والقيود اللوجستية.
الأسعار إلى ارتفاع
إلى ذلك، يرتفع سعر السمك بشكل يومي، ويردّ عبود العويد، أحد تجار السمك في المنطقة، هذا الارتفاع “إلى ندرة السمك في مواسم الجفاف، وإلى خوف الصيادين من النزول إلى الفرات والإصابة بطلق ناري يرديهم”.
يقول لـ”963+”: “تتفاوت الأسعار وفقًا لحجم السمكة، ويصل سعر الكيلوغرام من السمك الصغير إلى 15,000 ليرة سورية (دولار واحد)، ويتزايد السعر مع ازدياد حجم السمكة، حتى يبلغ 50,000 ليرة سورية (3.3 دولارات)”. ويختم: “إن استمر هذا الارتفاع، فسيقترب سعر السمك من أسعار اللحوم والدواجن”.
يعقّب هشام السالم بالقول: “عدد مطاعم السمك في دير الزور محدود، وإن اشترت سمكاً فإنها تشتري كميات قليلة من الصيادين المحليين، وتعتمد غالبًا على شراء السمك المستورد”، داعياً للتشجيع على إقامة الأحواض لتربية الأسماك وتلبية احتياجات الناس”.
ويختم السالم: “أولاً وقبل كل شيء، يجب التحرك نحو تحقيق التنسيق بين المجتمع المدني والسلطات المحلية والعسكرية لضمان سلامة صيادي الأسماك، وإلا ستندثر هذه المهنة سريعاً.