من شعائر الأضحى، أو “العيد الكبير” كما نسميه في المشرق العربي، نحر الأضاحي تقرباً من الله، في مناسك توازي في مواقيتها مناسك الحج، حتى ثمة من يساوي بين الشعيرتين. “لكن… من أين؟” هذا هو السؤال الكبير في الشمال السوري.
ترزح أغلبية المواطنين في هذا الجزء من سوريا تحت أثقال الفقر، “حتى يكادون لا يجدون قوت يومهم، فكيف لهم أن ينحروا أضحية لا يملكون من ثمنها ولو القليل؟”، يسأل مصطفى عبد الرزاق، وهو تاجر مواشٍ من بلدة تلعادة بمنطقة حارم في محافظة إدلب، تحدث لـ”963+” صراحةً، قائلاً: إن الأضاحي في هذا العام قليلة، “وستكون أقل في كل عام، ما دامت الأسعار مستمرة في الارتفاع، وما دام الإقبال على النحر ضعيفاً”.
ثروة طائلة
المواطن في الشمال السوري يقف بين فكي كماشة. يقولها المواطن محمد عبد الحي لـ”963+” رداً على التاجر عبد الرزاق، مضيفاً: “نعم، بين أن نلتزم سنة رسول الله المؤكدة، وهو من كان ينحر كبشين أملحين من الغنم في كل عام، واحداً عنه وعن آله وآخراً عن كل من وحّد الله من أمته… وبين أن نتلطى وراء شرط ’الاستطاعة‘، فلا نضحّي، لأن التجار ضحوا بنا على مذبح الغلاء”.
بحسبه، يصل سعر كيلو “الخروف الحي” في هذا العام إلى 5.5 دولارات، وأي خروف، مهما صغر، لا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً، أي يصل سعره إلى نحو 275 دولاراً، “وهذا المبلغ ثروة طائلة”، كما يلاحظ عبد الحي مذكراً بأن سعر الكيلوغرام تراوح في العام الماضي بين 4 و4.5 دولارات.
ليسوا أبرياء
يقول: “أنا لا أبرّئ التجّار، الذين يهربون رؤوس الماشية إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، من الزيادة الكبيرة في الأسعار، ولا أبّرئهم من إثم دفع أغلبية الناس في الشمال السوري إلى التخلّي عن فكرة نحر الأضاحي في هذا العيد”.
وأمر التضحية يزداد صعوبة على سكان الشمال السوري من عام إلى آخر، كما يقول عبد الحي، “بسبب الفرق في أسعار الخراف بين الدولار والليرة التركية التي تراجعت قيمتها كثيراً، ما رفع أسعار الأضاحي”. وكأنهما فكا كماشة أخرى؟
يضيف عبد الرزاق، تاجر المواشي، سببين آخرين لارتفاع أسعار الأضاحي في هذا العام: “غلاء الأعلاف وتقلص المساحات الرعوية”. فلا بساتين ولا مراعٍ يمكن سوق الأغنام إليها لترعى، فيُضطر مربو المواشي إلى شراء الأعلاف من التجار، وأسعارها تقفز كل يوم، من دون أن يبرئ هو أيضاً بعض تجار المواشي والأعلاف من رفع الأسعار بشكل مقصود في موسم العيد، “فهذه فرصة تجارية أكثر منها دينية وإيمانية لبعضهم”، كما يقول، مضيفاً ألا داعٍ للكلام عن انخفاض قدرة أهالي الشمال السوري الشرائية، وارتفاع سعر العلف، وتقلّص المساحات الخضراء، والجفاف الذي يضرب البلاد بسبب التغيّر المناخي، “فهذه صارت كالاسطوانة التي تعيد نفسها، فالكل يعرف أن السوري – أينما كان في سوريا – يعاني ضيقاً اقتصادياً ما بعده ضيق”.
أمل مفقود
من جانبه، يقول عقيل المصطفى (أبو مصطفى)، أحد وسطاء بيع المواشي وشرائها في سوق الأضاحي بمدينة الدانا بمحافظة إدلب، إن التجار يشترون المواشي، “وربما لن يبيعوها، فإقبال الأهالي ضعيف، وحركة السوق متوسطة، وربما يزيد الطلب قليلاً خلال الأيام التي تسبق الأضحى”.
يزيد؟ أي طلب سيزيد؟ يسأل “أبو مصطفى” ضاحكاً، ويقول: “يعمل العديد من المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية الناشطة في العمل الإغاثي على توزيع الأضاحي التي تصل بأعداد كبيرة إلى المنطقة، لكن عدداً كبيراً من السكان يؤكدون أن هذه العملية يشوبها فساد غير مسبوق، في آليات الذبح والتخزين والتوزيع”. فقسم كبير من اللحوم المخزنة تفسد، ويتم التخلص منها في كل عام، بسبب شروط تخزين غير ملائمة، وتقصير في التوزيع، “فيما تبقى عائلات بلا نحر، وبلا لحم”، بحسب عبد الحي.
يضيف “أبو مصطفى”: “تلعب المحسوبيات دوراً مهماً في عمليات التوزيع، فتحصل عائلات على حصة واحدة من لحوم العيد، فيما تخزن عائلات أخرى كميات تكفيها أشهراً بعد إنقضاء العيد، ترمي منها كمية لا بأس بها، لأنها تفسد”.
كسر السوق
لكن، ثمة من يرى رأياً آخر. يقول تاجر المواشي جاسم المحمود من بلدة جزراية بريف حلب، إن بعض المنظمات الأغاثية وبعض التجار يروجون “لكسر السوق”، بينما يراهن هو وأمثاله من التجار على تحسّن السوق، ويؤكد لـ”963+” أن الإقبال على الأضاحي جيد نسبياً، وأن ارتفاع الأسعار “ليس محلياً فحسب، بل هو عالمي”.
يؤيده في ذلك تاجر الأعلاف عصري منسي الجاسم في مدينة سراقب بريف إدلب. يقول لـ”963+” إنه يستورد الأعلاف بسعر مرتفع قليلاً، “ومع تكاليف الشحن والمصاريف يرتفع السعر أكثر، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار العلف على مربي المواشي، وهذا ينعكس على سوق المواشي كله”.
ولا ننسى الأمطار والفيضانات التي ضربت هذه المنطقة أخيراً، كما يقول تاجر الأعلاف في بلدة تل فخار شرقي إدلب منذر الخليل لـ”963+”، مضيفاً: “أدت إلى فقدان بعض المواد من السوق”، معترفاً بأن هذه العوامل، والضائقة الاقتصادية العامة، سببت تراجعاً في الطلب في سوق المواشي بنسبة 80 في المئة.
ثمة دول، كالمغرب مثلاً، ارتفعت فيها أصوات تطالب السلطات بإلغاء شعائر النحر استثنائياً في هذا العيد، لضيق ذات اليد. لكن… لا يُكلّف الله نفساً إلا وسعها، “فحتى الحج، لمن استطاع إليه سبيلاً”، كما يقول عبد الحي، “وأضعف الإيمان أن ينسحب هذا على تقديم الأضاحي، فلعلّ تهليلات العيد تُعيد البركة إلى هذه الأرض وإلى هؤلاء الناس”.