في تحول مفاجئ ومثير، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية ودعا إلى إجراء انتخابات مبكرة ستتم على جولتين؛ الأولى في الثلاثين من يونيو/حزيران الجاري، والثانية في السابع من يوليو/تموز المقبل. وجاء هذا القرار في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مني بها حزب ماكرون في الانتخابات الأوروبية، التي فاز فيها حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرّف بزعامة مارين لوبان بحوالي 32% إلى 33% من الأصوات، متقدماً بفارق كبير على حزب “النهضة” الذي حصل على حوالي 15% فقط.
كان نجاح ماكرون في الماضي يرتكز على ادعائه بأنه «ليس يميناً ولا يسارياً»، وبالتالي يمثل بديلاً لليمين واختياراً للناخبين المحافظين. لكن يبدو أن هذه الحجة لم تعد صالحة، حيث يعطي ماكرون على نحو متزايد الانطباع بأنه لا يولي القدر الكافي من الاهتمام للأزمات الداخلية القائمة في البلاد.
في العام الماضي فقط، أصيبت فرنسا بالشلل بسبب الإضرابات واسعة النطاق، حيث احتج الفرنسيون على رفع سن التقاعد. وأعقب ذلك احتجاجات كبيرة للمزارعين ضد لوائح الاتحاد الأوروبي الجديدة، مما دفع المتظاهرين إلى العاصمة. والآن يشعر الفرنسيون بالألم بسبب الزيادات الهائلة في الأسعار، وخاصة في قطاع الطاقة، حيث إن تكاليف التحول في مجال الطاقة يتم تمويلها في المقام الأول من قبل المستهلكين العاديين. وفي الوقت نفسه، يشعر كثيرون بالغضب إزاء الإنفاق المرتفع على المشاريع المرموقة مثل الألعاب الأولمبية.
الأزمة السياسية الراهنة
تؤدي هذه الأزمة السياسية إلى تفاقم الوضع المتوتر بالفعل داخل المشهد الحزبي التقليدي في فرنسا. فالجمهوريون، الذين كانوا يمثلون ذات يوم رؤساء مثل جاك شيراك ونيكولاس ساركوزي تحت اسم “الاتحاد من أجل الحركة الشعبية”، يواجهون الآن انقسامات داخلية ومشاكل في الزعامة، وهو ما تجسد في الخلافات المحيطة بإيريك سيوتي. تمّ طرد سيوتي، وهو عضو بارز في الحزب “الجمهوري”، من الحزب لأنه أجرى مفاوضات سرية مع حزب “التجمع الوطني” وأعلن عن رغبته في التحالف مع التجمع!
في الوقت ذاته يحاول اليسار توحيد “الحزب الاشتراكي” مع حزبي “الخضر” و”فرنسا الأبية” مع “الجبهة الشعبية” ويدعو للاحتجاجات ضد الحكومة.
ويمكن النظر إلى قرار ماكرون بحل البرلمان على أنه مناورة سياسية لتعزيز أغلبيته المتضائلة في البرلمان. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة تحمل مخاطر كبيرة ويمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز مكانة “التجمع الوطني” من خلال منح لوبان وحزبها الفرصة لوضع أنفسهم كبديل حقيقي وربما الاستيلاء على السلطة. وقد تؤدي مثل هذه النتيجة إلى “تعايش” يضطر فيه ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء من اتجاه سياسي معارض.
سياسة الهجرة للجبهة الوطنية
في قلب الأجندة السياسية لحزب “التجمع الوطني” توجد سياسة صارمة للهجرة. وقد دعت زعيمته مارين لوبان مراراً وتكراراً إلى خفضٍ كبير في الهجرة وإلى مكافحة صارمة للهجرة غير الشرعية. وتقول إن سياسات الهجرة السابقة ساهمت في عدم الاستقرار الإجتماعي والإقتصادي في فرنسا. وتشمل مقترحاتها إعطاء الأولوية للمواطنين الفرنسيين في المزايا الاجتماعية والإسكان، الأمر الذي يمكن أن يعزز الانقسامات والتمييز الأعمق في المجتمع. وهنا على وجه الخصوص، أظهر ماكرون بالفعل استعداده للرضوخ لمطالب “التجمع الوطني”، عندما تم تعليق قانون الهجرة الجديد في الشتاء الماضي بسبب عدم وجود أغلبية برلمانية، وقد تم تغييره بشكل كبير لصالح رغبات “التجمع الوطني”، ثم تم إقراره بمساعدة أصواتهم.
إن كلاً من ماكرون والجمهوريين منفتحون على تبني النجاح المحموم الذي حققه حزب “التجمع الوطني”، وحتى المعسكر السياسي لإيريك زمور أصبح الآن منقسماً بشدة مع تحول المزيد من حزبه نحو لوبان.
التجمع الوطني أوروبياً
إن الكثير مما يحدث في الداخل، ولكن السياسة الأوروبية التي ينتهجها “التجمع الوطني” تمثل أيضاً تحدياً أساسياً، وخاصة فيما يتصل بتماسك الاتحاد الأوروبي. وقد أكدت مارين لوبان مراراً وتكراراً على رغبتها في إصلاح الاتحاد الأوروبي بشكل جذري أو حتى تركه إذا لزم الأمر. فحزبها يدعو إلى العودة إلى العملات الوطنية واستعادة السيادة الوطنية، وهو ما يعني إلغاء اليورو وتحويل السوق الداخلية. وهذا الموقف الراديكالي لن يعرض استقرار الاتحاد الأوروبي للخطر فحسب، بل قد يؤثر بشدة أيضاً على العلاقات الاقتصادية والتجارة الداخلية. إن النتائج العالية للغاية التي حققها حزب “البديل من أجل ألمانيا” في ألمانيا، الذي ينتهج سياسات مماثلة، قد تعني أن البلدين الأكثر أهمية اقتصادياً وعسكرياً في أوروبا، واللذان يشكلان إلى حد ما الجزء الخلفي من الاتحاد، لم يعد بإمكانهما العمل كعوامل استقرار. الأمر الذي قد يؤدي ربما إلى الانهيار الكامل للاتحاد الأوروبي.
في السياسة الدفاعية، يعتمد “التجمع الوطني” على السيادة الوطنية وتعزيز الجيش. مارين لوبان تدعو إلى زيادة الإنفاق الدفاعي والاستقلال عن حلف شمال الأطلسي(الناتو). إن انتقادها لمنظمة حلف شمال الأطلسي والمطالبة بسياسة دفاعية فرنسية مستقلة من شأنه أن يقوض تحالفات فرنسا التقليدية ويؤدي إلى زعزعة استقرار السياسة الأمنية الأوروبية. كما دعت لوبان أيضاً إلى العمل مع روسيا كشريك استراتيجي، وهو ما قد يواجه مقاومة كبيرة داخل الناتو وبين الحلفاء الغربيين. إذا نظرت بعد ذلك إلى السيناريو الواقعي المتمثل في إمكانية حكم دونالد ترامب قريباً للولايات المتحدة، وهو منتقد آخر لحلف شمال الأطلسي، فستظهر صورة قاتمة. إن عزلة السياسة الدفاعية التي تقوض بعضاً من أكبر اللاعبين في البنية الأمنية العالمية يمكن أن تعرض الاستقرار العالمي للخطر الشديد.
خلاصة
إن فوز حزب “التجمع الوطني” في الانتخابات قد يدفع فرنسا إلى العزلة ويغير العلاقات الدولية بشكل كبير. وتعكس مواقف لوبان تشككاً عميقاً في العولمة وتأكيداً على السيادة الوطنية. ومن الممكن أن تؤدي هذه التوجهات السياسية إلى توترات مع شركاء فرنسا الأوروبيين والدوليين وزعزعة استقرار المشهد السياسي في أوروبا. ولذلك فمن المهم أن يتابع المراقبون والمحللون عن كثب التطورات المحيطة بحزب لوبان، لأن فوزها في الانتخابات من شأنه أن يفرض تحديات جديدة ليس فقط لفرنسا، بل وأيضاً للاتحاد الأوروبي بأكمله.
بطبيعة الحال، هناك أصوات عديدة، بما في ذلك أصوات ماكرون ذاته، بشكل غير مباشر، تأمل أن يحرر الشعبيون اليمينيون أنفسهم من الوهم بمجرد وصولهم إلى السلطة. ومع ذلك، فإن هذا الأمل يتمتع بشرعية محدودة، حيث نادراً ما يتم ملاحظة خيبة الأمل هذه بين الشعوبيين. على العكس من ذلك، غالباً ما يصبحون أكثر شعبية في مناصبهم، كما تظهر الأمثلة من الولايات المتحدة وتركيا. ونظراً للتحول الحالي نحو اليمين في أوروبا، حيث أصبح التصعيد العنيف هو القاعدة بالفعل، فلن تتمكن فرنسا ولا الاتحاد الأوروبي من تحمل المزيد من التصعيد السياسي. وتراقب روسيا والصين التطورات عن كثب ويمكنهما استغلال أي ضعف أو نقص في التخطيط لصالحهما.