يتعدد “النصابون”… والضحية واحدة: السوري الذي يريد الربح السريع، فيقع في حبائل من يريد الربح الأسرع. إنها الأمثولة التي تعلّمها بعض السوريين “من كيسهم”، ودفعوا ثمنها باهظاً جداً.
لا تتشابه قصص من جمعوا الأموال احتيالاً، لكن تتشابه قصص من ضاعت أموالهم. من “النصابين” الذين استتروا بالتقية والمشروعات الخيرية وتنمية المجتمع، وحتى تمكين المرأة السورية؛ ومنهم من غلفوا أنشطتهم بغلاف “رسمي”، فنشروا صوراً لهم مع مسؤولين سوريين وغير سوريين، ومنهم من اعتمد التوعية البيئة سبيلاً؛ ومنهم كثيرون فاقوا “بونزي” الشهير في الدهاء المالي، فاقترضوا من فلان ليسدوا دينهم لفلان آخر، فتطول السلسلة ويقع الجميع أخيراً في لحظة غفلة.
حين تقع الفأس في الرأس، وينكشف المستور، يهب من ضاعت أموالهم صائحين نائحين، مستغيثين بالقضاء. ربّ قائلٍ: “صحيح أنهم خافوا تأكّل أموالهم، لكن… ما متوا، ما شفتوا مين مات؟”.
تساقطوا من “شجرتي”
لمى عيسى موظفة مكافحة، أخطأت خطيئتها الكبرى حين أقنعتها زميلة لها في العمل بأن تقترض من مصرف التسليف لتستثمر المال “أحسن استثمار”، كما وصفته، مع رجل ذاع صيته، يعمل جهاراً نهاراً في مكتبه قبالة حديقة الجلاء بدمشق. لم تفكر عيسى كثيراً، “فالحاجة ماسّة، والأرباح مغرية”، كما قالت لـ”963+”، مضيفةً: “أقنعتني بأن هذا المشروع يختلف عن باقي المشروعات، وهذا الرجل يتحلى بالصدق، يوزّع الأرباح على المساهمين معه بالعدل، ويكفي أن جهات رسمية ترعى المشروع. فهل يستطيع أن يتلاعب بأموال هؤلاء الرسميين؟”
كل هذا الوصف كان لمشروع “شجرتي”. كانت الشروط تقضي أن يودع المساهم ماله ويبدأ في جني الأرباح، أي فوائد ماله، بعد ثلاثة أشهر. انتظرت عيسى مرور هذه الأشهر الثلاثة على أحر من الجمر، “لكن… ضاع العمر يا ولدي”، كما تقول. فقد ألقت السلطات القبض على صاحب المشروع، زاهر زنبركجي، بعدما تبيّن أنه محتال، وصار عليها أن تسدد أقساط القرض “من اللحم الحي”، كما تقول دامعةً.
هذا ما حصل معها ومع آلاف مثلها في كانون الأول/ديسمبر 2020، حين فوجئ البلد كله. بطرح أملاك زنبركجي للبيع بالمزاد العلني، بعد القبض عليه، وإغلاق “شجرتي” بالشمع الأحمر.
سمير محمد، عميد متقاعد في قوات الحكومة السورية، لكنه أيضاً أحد ضحايا زنبركجي في “شجرتي”. ففي عام 2016، سرت أخبار استثمارات زنبركجي في صفوف القوات الحكومية كما النار في الهشيم. فالكل يتكلم عن فرصة استثمارية آمنة ومضمونة.
يقول لـ”963+”: “استثمرت بمبلغ مليون ليرة (كانت تعادل حينها 2000 دولار)، فكنت أحصل على 90 ألف ليرة شهرياً، تكفيني مع راتبي التقاعدي وراتب زوجتي. وبعد مرور 11 شهراً، اختفى زنبركجي. لكن كان حظي أفضل من حظ غيره، فقد كنت من أوائل المودعين واسترجع رأسمالي، ولو بالقسط الشهري”.
“قريب الحكومة”
وقصة “شجرتي” وزنبركجي قصةٌ تروى. فقد كان زنبركجي يقدم نفسه دائماً تاجراً من مواليد دمشق، متحدراً من عائلة معروفة، وبشار الجعفري الذي يشغل منصب سفير الحكومة السورية في موسكو اليوم هو ابن خالة أبيه. وتوضع أسماء الجعفري وإخوته في رأس أي ورقة نعي تخص آل زنبركجي، بصفتهم من أقرباء العائلة. وهذا ما طمأن الكثيرين.
وما عزز مكانة زنبركجي في الهرم “الافتراضي” السوري ظهوره في لقاءات إعلامية في وسائل الإعلام الحكومية، وبينها الوكالة الرسمية في الحكومة السورية “سانا” والفضائية السورية، داعماً الحكومة السورية وجيشها، ومروجاً لمشروعاته “التي ستكون عماد إعادة بناء ما تهدم في سوريا الغد”، كما قال في أحد اللقاءات.
وبعدما وصل إلى قمة المجد، أدركت وزارة التجارة وحماية المستهلك متأخرة أن لا ترخيص صادراً باسم شركة “شجرتي”، ولا باسمها الآخر، “الشركة الكورية”، ولا حتى باسم زاهر زنبركجي نفسه، هذا بعد أن جمع أموال السوريين، وخصوصاً العسكريين، ليشغلها في مشروعات تجارية وليمنحهم أرباحاً طائلة على استثماراتهم، تصل أحياناً إلى 100 في المئة. وتعلّق عيسى: “كان ذلك كله وهماً”.
حين وقع في شر أعماله، حكم عليه بالسجن 15 عاماً، وبأن يعيد أموال المودعين الذين سلبهم شقاء أعمارهم، والبالغ عددهم نحو 4600 ضحية، وقدرت أموالهم بمليارات الليرات السورية.
وقد لا يكون المحتال رجلاً “له حيثية”. فهذه الموظفة روزيت خليل أودعت مالها عند طبيبة تعمل في جوارها، “وكانت تعطيني 80 ألف ليرة (5.5 دولارات أميركية) شهرياً عن كل مليون (67 دولاراً أميركياً) وبشكل مسبق. فبدأت بمليون وزدت المبلغ إلى 15 مليون ليرة (1000 دولار أميركي)، وأقنعت قريباتي وصديقاتي بأن يفعلن فعلتي”. بعد أشهر قليلة، فوجئ الجميع بالقبض على الطبيبة بتهمة الاحتيال… فتبخرت الأموال.
قبل زنبركجي وهذه الطبيبة وأمثالهما من المحتالين المعاصرين، القصة الأشهر في تاريخ الاحتيال السوري هي قصة باشيان الذي جمع المليارات في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وهرب بأمواله من سوريا، تاركاً وراءه رجالاً غلبهم الدين، ونساءً قهرهن الأمل.
القشة.. والغريق
قصصٌ تدمي القلوب، لكن القضاء لا يحمي المغفلين. كلا.. ترفض عيسى هذه المقولة “جملةً وتفصيلاً” كما تقول، مضيفةً: “الأصح أن تقولوا إن ‘الغريق يتعلّق بقشة‘… ألم تقولي قبل لحظات أننا نساء قهرهن الأمل؟”. هذا ألأمل منعها، ومنع غيرها، من وضوح الرؤية، كما يقول الصحافي الاقتصادي سامر رعد (اسم مستعار)، مضيفاً لـ”963+”: “يمكنني تفهم حال المودعين ورغبة الفقراء في تحسين مصادر دخلهم، وسعي الأغنياء أو ورجالات الدولة إلى إيجاد استثمارات مجدية لأموال نعرف تماماً من أين أتوا بها، أو لا نعرف، لكنني لا أستطيع بأي شكل تبرئة الجهات الرسمية من غض الطرف عن محتالين سرقوا الناس، وتلطوا وراء قرابة ما أو علاقة نسب ما، ليمارسوا النصب جهاراً”.
وغض الطرف هنا، بحسب رعد، يكمن في أمرين: “الأول، عدم تحرّي أمر كل مستثمر يدعو الناس إلى توظيف أموالهم في مشروعاته، ويعيد لهم الفوائد مضاعفة بطريقة تثير الشك؛ والثاني، التعامل مع المسألة بعد انكشاف أمر المحتال بشيء من الاستخفاف، فهذا الاستخفاف يصيب قلوب الناس الذين فقدوا كل ما يملكون، سعياً وراء طريق للخروج من ضيق الحال”.
ويحاول الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم أن يكون ديبلوماسياً في اختيار كلماته، “فأنا لا أريد أن أغضب أحداً من هؤلاء الدراويش، المدفونين أحياء في أعمالهم، وقدروا أن درب الملايين تبدأ عند عتبة زنبركجي”، كما يقول لـ”963+”، مؤكداً أن هذه السيرة لن تُقفل، وهذه النماذج الاحتيالية ستتكرر.
يردّ إبراهيم ذلك إلى أسباب عدة، أولها غياب القنوات الاستثمارية التي تتمتع بالصدقية والأمانة، كأسواق الأوراق المالية أو شركات المساهمة العامة. ويضيف: “الأوضاع المعيشية الخانقة تجبر الناس على ’التعلّق بقشة‘ كما تقول إحدى اللواتي تعرضن للاحتيال في ’شجرتي‘، والبحث عن استثمار مدخراتهم في مشاريع مربحة، والمعلوم أن الاحتيال في جمع الأموال يزدهر في أوقات الأزمات، فباشيان ضرب ضربته حين كانت سوريا محاصرة في الثمانينيات”، لافتاً إلى أن المحتالين يجدون في بساطة السوريين وطيبتهم “البيئة الاحتيالية النموذجية، فيتلطون مرة خلف سمعة عائلاتهم، ومرة أخرى خلف ستار الدين، ومراراً خلف الحس الوطني، لذلك قلت إن هذا سيتكرر في المستقبل”.
برأيه، خلاص المجتمع السوري من هذه الظواهر يحتاج سنوات عدة من العمل على بنية الاقتصاد، ورسم سياسات تضبط التعاملات المصرفية والاستثمارية، وتكافح الفساد، وتحقق الإصلاح الإداري، “والأهم من ذلك كله سن قوانين رادعة تحفظ حقوق المواطن، وتحميه من دهاء المحتالين، فننتهي فعلاً من استخدام مقولة ’القانون لا يحمي المغفلين‘ شماعةً نعلّق عليها فشلاً قضائياً لا يجوز استمراره”.
انجوا بأنفسكم.. وبأموالكم
كان يجب أن يتدخل هنا المحامي حافظ الفتاح، مؤكداً أن وزارة الإدارة المحلية السورية سابقاً أعدت تعديلاً على القانون السوري بإضافة مواد تقضي بتعديل قيمة الغرامات التي تفرض على المحتالين، وتعديل فترة عقوبتهم لتصبح سبع سنوات سجناً تبدأ في لحظة توقيفهم، إن تجاوزت قيمة الأموال التي لم تتم إعادتها لأصحابها أربعة ملايين ليرة سورية، “فتكون الغرامة ضعف المبالغ التي جمعها المحتال من الناس، ويكون الحكم مشدداً في حال استخدم وسائل التواصل الاجتماعي بشكل ممنهج، حيث يظهر جامع الأموال للغير مستثمراً وصاحب أملاك، فيمنحه هذا الأمر مظهراً مغرياً يجذب إليه المودعين، فلا يمكن حينها تخفيف العقوبة”.
وكان القانون السوري قد عرف جريمة جمع الأموال في المادة الأولى من القانون رقم 8 لعام 1994 الخاص بجامعي الأموال، كما يأتي: “يمنع على أي شخص طبيعي أو اعتباري جمع الأموال من الجمهور بغية توظيفها أو استثمارها أو الاتجار بها لأي غرض من أغراض توظيف الأموال وبأية وسيلة كانت وتحت أي مسمى، سواء أكان هذا الغرض صريحاً أم مستتراً”.
حسناً… إن وقع المحظور، كيف تحصل لمى عيسى وروزيت خليل وسمير محمد ما خسروه؟ يقول المحامي الفتاح لـ”963+” إن تنازل هؤلاء وغيرهم عن أموالهم للمحتال يتم في العادة بموجب عقود صورية، تستتر خلف اتفاقات ورقية كعقود الأمانة والأسناد التجارية. ويضيف: “يتمسك جامع الأموال بمظهر شكلي شبه قانوني يستدرج به ضحاياه بطمأنتهم إلى أن أموالهم محمية بالقانون. وعند الفاجعة، يفاجأ المواطن بوجود عدد كبير جداً من الدائنين أمثاله، فتتعثر آلية تحصيل الديون، لأن شكليات التصرف أو جمع الأموال من سندات أو عقود هي التي تحكم طريقة التحصيل”.
ويختم الفتاح: “كي لا يصل أحدٌ إلى مرحلة الحسرة، أقولها للجميع: لا تصدقوا من يغريكم بعوائد شهرية طائلة، فالاستثمارات المشروعة لا تقدم فوائد تصل إلى 100 في المئة. وعندما تسمعون بهذه النسبة المغرية، تأكدوا أن في المسألة نصباً واحتيالاً.. وانجوا بأنفسكم وبأموالكم”.