خاص – حلب
بين جديد وقديم، طبيعي أن نختار الجديد، خصوصاً إن كان الخيار متصلاً بملبس وأناقة وموضة. لكن، في أيام الفاقة بحلب، بعد عزّها، صارت البالة غايةً يطلبها الناس، بكل وسيلة ممكنة، علّ الملابس المستعملة تستر ما كشفته الأزمة الاقتصادية.
هكذا بدأ محمد حسن (47 عاماً) حديثه لـ “963+”، مضيفاً أن شراء الملابس الجديدة صار رفاهية غير متاحة لعائلات كثيرة، باتت شبه معدومة، “فأنا موظف في البلدية وراتبي الشهري 350 ألف ليرة سورية (نحو 20 دولاراً أميركياً)، وإذا أردت أن أشتري حذاءً لولدي، ربما يكلفني ذلك أكثر من نصف راتب شهر، فماذا نأكل؟”.
هذا ليس سؤالاً مهماً، إنما هو سؤال يقترب من أن يكون “وجودياً”، في ظل وضع اقتصادي لا يستطيع السوريون تحمل تبعات انهياره. تقول سعاد قباقبجي (55 عاماً) لـ”963+”: “كنت أشتري سابقاً الملابس الجاهزة من الأسواق التجارية، ولم أكن أعلم بأسواق البالة لأنني ما كنت بحاجة إليها. لكن الوضع تغير الآن”.
صار شراء قباقبجي قطعة ملابس واحدة لأحد أولادها عبئاً يُثقل كاهلها، “ويتعبت نفسيتي أيضاً”. تضيف: “نصحتني صديقة بالتوجه إلى سوق البالة، فوجدت فيها ضالتي”. هناك، أسعار الملابس المستعملة أرخص من الملابس الجاهزة، والنوعية أقل جودة قليلاً، “لكن العين بصيرة، واليد قصيرة جداً جداً، فصرت أكسو أبنائي بألبسة مستعملة وأشتري لهم أحذية مستعملة، وتخلينا تماماً عن دخول المتاجر، فهذه لها أربابها”.
))
هل تعزّ؟
لكن البالة “صار الجميع أربابها”، كما يقول كمال وطفة، صاحب متجر للبالة في منطقة باب جنين بحلب. يضيف لـ”963+”: “في العام الماضي وقبله أيضاً، كنت أبيع 500 قطعة تقريباً في الشهر. في هذا العام، زاد الطلب كثيراً على الثياب المستعملة، فصرنا نبيع 200 قطعة تقريباً في اليوم”، وبحسبه، هذا دليل دامغ على ما وصل إليه حال الناس في حلب، “التي كانت تُطعم سوريا كلها”.
ينفعل وطفة قليلاً، ويقول: “أريد أن أتكلم بصراحة. وصل الفقر في حلب حداً لا يحمله عقل. أتُصدق إن أخبرتك أن بعض العملاء ’يفاصلونني‘ على 500 ليرة سورية، أي 0.03 سنت أميركي؟ أيمت كانت حلب هيك؟”.
في حلب 236 متجر بالة حسب إحصائيات غير رسمية، تتوزع أغلبيتها في شارع أدونيس قرب الجامعة وباب جنين والأشرفية.
فهذه مهنة رائجة اليوم. لكن وطفة يخاف أن تعزّ حتى الملابس المستعملة على السوريين؛ إذ يشكو تصاعد التكاليف على البالات، “فدوريات الجمارك تصادر البضاعة وتحتجزها بحجة عدم وجود بيان جمركي، كما ارتفعت الضرائب والرسوم، فاضطررنا بطبيعة الحال إلى رفع الأسعار كي نحقق هامش ربح ولو بسيط، يمكننا في أقل تقدير من تأمين القوت لعائلاتنا”، كما يقول.
فكيف سيكون الحال إن عجز الناس حتى عن الاكتساء بثياب مستعملة؟
مسكوت عنه
يعقّب مصدر في دائرة الدخل المقطوع في مديرية المالية بحلب على مخاوف وطفة بالاعتراف بأن الضريبة على محلات البالة ارتفعت كثيراً، ولسبب غير معروف. يقول لـ”963+”: “كانت الرسوم في العام الماضي والذي قبله 900 ألف ليرة سورية (ما يعادل 60 دولاراً أميركياً)، ولا نعلم من رفعها إلى 3.8 ملايين ليرة سورية (ما يعادل 253 دولاراً أميركياً)”.
ويضيف المصدر، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه: “يحاول بعض المتنفذين في مديرية المالية التحكم بأصحاب المحلات، خصوصاً محلات البالة. فهذه المهنة تدر المال الكثير. يطلب بعض أصحاب القرار في المالية من أصحاب البالة مشاركتهم في أعمالهم، فإن رفضوا فَرَضت المالية عليهم ضرائب كبيرة”.
وبحسب المصدر نفسه، الراتب الحكومي لا يكفي إلا ليومين اثنين، وفي باقي أيام الشهر، تحدث المعجزات. ما هي هذه المعجزات؟ يجيب: “رشاوى وإكراميات، وهذه كلها مسكوت عنها، فمدير المالية مثلاً موظف درجة أولى، راتبه 800 ألف ليرة سورية (مايعادل 50 دولاراً أميركياً)، فكيف يعيش ويلبي احتياجات عائلته؟ فليدلنا المعنيون إلى الوصفة السحرية التي تجعل راتبنا يكفينا الشهر كله”، مؤكداً أن العائلة التي تملك ولدين تحتاج إلى 3.5 ملايين ليرة سورية (نحو 230 دولاراً أميركياً) في أقل تقدير لتعيش بالحد الأدنى.
ويختم المصدر بالقول: “سأقول كلمة لا يحق لي قولها، لأنني موظف في المالية: لن تقوم قائمة للصناعة والتجارة في حلب، لا بالة ولا غيرها، ما دامت الضرائب والرسوم مرتفعة بهذا الشكل”.