في صباح العاشر من أيار/مايو الجاري، كان محمد في متجره المستأجر للخضار في منطقة الدكوانة شرق بيروت برفقة سوريين آخرين يعتاشون من العمل لديه، “وفجأة وصلت دورية تابعة لجهاز أمن الدولة اللبناني وأغلقت المتجر بالشمع الأحمر، ومنعت العمال من إخراج أي شيء منه”، كما يقول لـ”963+”.
ما جرى لمحمد نموذج لما يجري يومياً في لبنان. فقد بدأت الحملات لإغلاق متاجر السوريين بعد بيان أصدرته المديرية العامة للأمن العام في الثامن من الشهر الجاري، تضمن “خارطة طريق” لضبط ملف السوريين في لبنان وتنظيمه، والقيام بـ “إقفال كافة المؤسسات والمحال المخالفة التي يديرها أو يستثمرها سوريون، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل من يستخدم عمالاً أجانب خلافاً لنظام الإقامة وقانون العمل”.
خسارة مضاعفة
خسر محمد (40 عاماً) مصدر رزقه الوحيد، إضافةً إلى منعه بالقوة من إخراج ما بقي من الخضار في دكانه. وهكذا، “فوق تسكير المتجر، تحملنا خسارة مضاعفة هي ثمن الخضار الموجود بداخله”.
يضيف: “إقامتي منتهية الصلاحية منذ خمسة أشهر، والمحل مستأجر من دون إجازة عمل لصعوبة استخراجها ولتكاليفها المرتفعة حالياً”، إذ تبلغ تكلفة إجازة العمل (فئة أولى) أكثر من 1000 دولار أميركي بعد رفع الأمن العام اللبناني الرسوم مؤخراً.
بعد ثلاثة أيام من إغلاق المتجر، قصد محمد المديرية العامة للأمن العام، “فتم استجوابي بمحضر رسمي، وطلب مني المامور استخراج إقامة قانونية وإجازة عمل لإعادة فتحه”، موضحاً أن إعادة فتح المتجر تستدعي توكيل محامٍ لبناني ودفع تكاليف أخرى، فضلاً عن طول الوقت اللازم لإنجاز المعاملة. يقول: “وكّلت محامياً والإضبارة ستنتقل من قاضٍ إلى آخر ومن نيابة إلى أخرى”، بحسب تعبيره، آملاً أن يعود إلى دكانه خلال أقل من شهر، بحسب وعد المحامي.
وكانت تقارير إعلامية محلية لبنانية قد تحدثت عن إغلاق السلطات مئات المتاجر التي يشغّلها سوريون في مناطق متفرقة من البلاد، حتى في مناطق لم تشهد توتراً بين اللبنانيين واللاجئين السوريين. كما تعرض سوريون كثيرون للتوقيف وسحب أوراقهم الثبوتية بذريعة عدم امتلاكهم إقامات قانونية، والترحيل أيضاً.
الأمن العام اللبناني يضيّق على اللاجئين السوريين.. والبلديات تلاحقهم
وأكدت المحامية ديالا شحادة أنّ القوانين اللبنانية تحصر صلاحية إغلاق المحال التجارية المخالفة لشروط العمل التجاري بالقضاء، مشيرةً في حديثها لـ”963+” إلى أنه “كان الأنسب توجيه إنذارات لهذه المحال ومنحها مهلاً لتصحيح أوضاعها القانونية تحت طائلة إحالتها للقضاء المختص، بدلاً من إغلاقها بالشمع الأحمر من دون إنذار ومن دون مراعاة القوانين المعنية ومن دون الاستحصال على أمر قضائي صادر عن القاضي صاحب الصلاحية”.
وتأسف شحادة لما حصل قائلة: “درجت العادة والعرف في لبنان أن تعمد الضابطة العدلية وأشخاصها إلى تنفيذ تدابير من هذا النوع بأوامر من السلطة التنفيذية”.
وفي المقابل هناك حالات استثنائية تتعلق بالسلامة الصحية والأمنية حصراً تسمح مراتٍ بتدابير مستعجلة من هذا النوع خارج إطار القضاء، وفقاً لشحادة، التي أكدت أن مخالفة شروط العمل التجاري “ليست من ضمنها”.
وخلال تلك الحملة المستمرة حتى الآن، أوقف الأمن العام أربعة آلاف سوري لدخولهم خلسةً، وسحب أوراق خمسة آلاف آخرين لمخالفتهم نظام الإقامة، فيما أغلق ألفين مؤسسة للسوريين، بحسب تقرير لقناة الـ mtv اللبنانية.
وقد أدت موجة الإغلاق هذه إلى وقوع أصحاب هذه المتاجر تحت خطر الجوع، بعدما انقطع مورد رزقهم من دون بديل، بحسب ما قال عدد من أصحاب المتاجر المقفلة لـ”963+”.
تعليقاً على ذلك، يرى جمعة محمد لهيب، الباحث في “تيار المستقبل السوري”، أنَّ شقاء عمر السوري ضاع مرتين، “مرة في بلده عندما ترك كل شيء وهُجّر، وأخرى بعد إغلاق متجره لأنه مخالف لنظام الإقامة في لبنان بسبب تعقيداتها”، مضيفاً أن “السوريين شعب يُراد له أن يُمزق ويُفقر ويُذل”.
ويعزو لهيب الحملة الأمنية ضد السوريين في لبنان إلى “صراعات لبنانية داخلية تستغلها بعض الأحزاب للاعتداء على السوريين وإخراجهم من لبنان”، معترفاً بإمكانية انفجار الوضع طائفياً وعشائرياً.
سحب وثائق شخصية
في الوقت الذي يتعرض فيه مئات السوريين لإغلاق متاجرهم ومحالهم، سُحبت من آخرين وثائقهم الشخصية. يعمل علاء (23 عاماً) في محل لتصفيف الشعر بمنطقة سن الفيل في بيروت، وهو واحد ممن سحبت أوراقهم فبقي من دون وثيقة تثبت هويته بعد وجوده خلسة في لبنان منذ 5 سنوات.
يشرح علاء ما حدث معه ويقول لـ”963+”: “كنت في صالون الحلاقة بينما كان صاحبه اللبناني غائباً، فسحبت الدورية هويتي الشخصية وطلبوا مني مراجعة الأمن العام”.
ويشير علاء إلى أنّ دورية الأمن العام أغلقت المحل بالشمع الأحمر، “نتيجة عملي من دون إقامة قانونية ومن دون إجازة عمل”. غير أنه يرفض مراجعة الأمن العام خوفاً من ترحيله وتسليمه للسلطات السورية، فهو مطلوب للخدمة العسكرية الإلزامية، وهذ ما دفعه للهرب إلى لبنان.
“إضراب” سوري؟
في المقابل، أغلق سوريون كثيرون متاجرهم في لبنان معلنين “الإضراب” بانتظار تحسن الأحوال أو قدرتهم على استخراج رخصة عمل في ظل امتناع وزارة العمل عن إعطاء رخصة “من دون دفع مبالغ كبيرة كرشاوى لسماسرة مرتبطين بالوزارة”، وفقاً لما قاله محمد.
ترحيل قسري من لبنان وتشريد.. حتى القانون لا يحمي اللاجئين السوريين
وعن حقيقة هذا الإضراب، يقول لهيب لـ”963+”: “هذا ليس إضراباً، إنما هو تخوف والتزام البيوت”، مؤكداً أنّ هناك من يريد تحويل إغلاق السوريين متاجرهم إلى إضراب “للقول إنّ هؤلاء بدأوا بتنظيم أنفسهم، لشحن نفوس اللبنانيين أكثر بزيادة منسوب الخوف منهم، وهذا ما يزيد النزعة العنصرية تجاههم”، مشيراً إلى أنّ لبنان “ينهار اقتصادياً من دون العمالة السورية، فالسوريون يشغلون منذ زمن طويل القطاعين الصناعي والخدماتي، وبعد بداية الأزمة في سوريا عام 2011، شغلوا بعضاً من القطاع التجاري اللبناني”، مؤكداً أن خسارة العمالة السورية “يعني ضرب الاقتصاد اللبناني”.
ويقدَّر عدد العمال السوريين في لبنان بنحو مليون عامل في حدّ أقصى، وفقاً للباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين الذي دعا إلى أن مقاربة مسألة العمالة السورية “مقاربة اقتصادية تراعي مصلحة البلد”، مضيفاً: “ما دام الاستغناء عن العمالة السورية أو استبدالها غير ممكن، يجب التعاطي مع السوريين في لبنان من منظار اقتصادي وليس على أساس شرعي أو غير شرعي”.
وبينما ينتظر محمد انتهاء إجراءات “فك تشميع محله”، يعيش مع عائلات سورية أخرى وضعاً اقتصادياً ونفسياً “مزرياً”، ويتمنى العودة إلى عمله في ظل استحالة عودته إلى مسقط رأسه في إدلب شمال غربي سوريا في الوقت الراهن.