بوجه شاحب، تبدأ “أم سما” (44 عاماً) صباحها بإعداد وجبة إفطار سورية لعائلة في السليمانية، تقول: “سلبتني سنوات الحرب الممزوجة بالغربة كل شيء، وأعمل اليوم أكثر من 10 ساعات يومياً لأعيل عائلتي”.
غادرت “أم سما” حلب شمالي سوريا، ولجأت مع زوجها وأطفالها الخمسة إلى العراق نهاية عام 2015. بقوا عامين في مخيمات السليمانية بإقليم كردستان العراق، عمل خلالهما زوجها في مهن متعددة. تحسن وضعهم قليلاً في العام الثالث، بعدما توظف زوجها مشرفاً في قسم الحلويات والمقبلات بأحد المطاعم”.
فانوس سحري!
تروي “أم سما” لـ”963+”: “بدأت وشقيقتي نجهز المطعم بأنواع المكدوس والفطائر والحلويات السورية المرغوبة جداً، واقترح زوج شقيقتي أن نجمع ما نستطيع من المال لنفتح مشروعاً خاصاً”. لكن هذه الفكرة لم تصل إلى خواتيمها السعيدة، “فقد غير زوجي وعديله وجهتهما، واتفقا مع مهرب على أن يوصلهما ’سالِمَين غانِمَين’ إلى ألمانيا”.
تشعل ناراً هادئةً تحت إبريق الشاي، وتتذكر يوم الوداع. فذات صباح في تموز/يوليو 2018، جهز الرجلان امتعتهما وغادرا. وبعد أسبوعين تقريباً، اتصلا بزوجتيهما من تركيا، وأخبراهما أنهما يتجهان إلى اليونان، وكان هذا آخر الكلام.
لا تعرف “أم سما” إن كان زوجها حياً أم ميتاً. وهذه حال أختها، وحال آلاف السوريات اللواتي خرج أزواجهن إلى أصقاع الدنيا بحثاً عن غدٍ أفضل، وما عادوا. طوته الدنيا، وبقيت “أم سما” بعده تغالب حياةً من دون أي إحساس بالأمان في العراق، “فلا يخلصني من مأساتي إلا مارد يخرج من فانوس سحري، وأنى لي أن أجد فانوساً سحرياً؟
قانون دولي
يتابع الخبير القانوني السوري غزوان قرنفل ملفات السوريين في بلدان المهجر، فيرصد حالات كثيرة كحالة “أم سما”: سوريات لا يعرفن مصير أزواجهن، فيواجهن مشكلات قانونية، ومآسٍ معيشية ظالمة.
يقول قرنفل لـ”963+”: “يلزم القانون الدولي دول الجوار السوري معالجة الأوضاع القانونية لهؤلاء النسوة، من منظور القوانين المحلية في كل دولة، وهذا يفرض على المحاكم العراقية النظر في قضايا التفريق وحصول هؤلاء النسوة على الحق في الوصاية على أولادهن في غياب أزواجهن، إن هن طلبن ذلك، علّهن يجدن فرصاً أفضل”.
ماذا أفعل؟
هذه المشكلة تزيد مشكلات السوريات في العراق قسوةً، فلا مخرج سهلاً منها. فهذه سها (32 عاماً) مثال حيّ. إنها سورية تسكن في أحد أحياء أربيل الفقيرة، أتى بها زوجها إلى العراق خلسة، ثم غادرها منذ أربعة أعوام، بعدما أودعها في بيت أقاربه، “وذهب إلى جنة الأمان، وها هم أقاربهم قد غادروا العراق منذ أشهر، وبقيت وحدي، مع ثلاثة أطفال، نغالب القدر بلا معيل”.
تضيف سها لـ”963+”: “منذ أربعة أعوام، لا أعرف وسيلة للاتصال به، ولا يمكنني أن أحظى بالطلاق، وفرص الزواج تطرق بابي، وربما يتغير وضعي إلى الأفضل بعد الفاقة التي أعيشها اليوم، ولكنت حصلت على الحق في وصاية أطفالي في أقل تقدير”.
يقول قرنفل إنه وضع نظرية للواتي غادرهن أزواجهن وانقطعوا عنهن مدة طويلة: “تنتظر المرأة بين ستة أشهر وسنة، وترسل إلى محامٍ سوري وكالة يوثقها كاتب بالعدل في العراق لتطليقها، وواجهت صعوبات نتيجة عدم توافر الأموال أو نتيجة أسباب أخرى، يمكنها تطليق نفسها في مجلس تحضره شخصيات معروفة في مكان إقامتها، بأن تقول جهراً ’يا أصحاب هذا المجلس، كونوا شهوداً على طلاقي من زوجي فلان بن فلان، فهو هجرني منذ عامين أو ثلاثة أو كذا‘، إلا أن هذا الحل استثنائي”.
أنظمة جائرة واستغلال
تسكن السورية ديما (33 عاماً) في بغداد، وقد فقدت الاتصال بزوجها بعدما سافر إلى ليتوانيا مهاجراً غير شرعي، “ومنذ عام، يقفز قلبي مع كل رنة هاتف، لعله يكلمني”.
تعبر ديما عن استيائها الشديد من أنظمة الوصاية في العراق. تقول: “طفلي في التاسعة من عمره، وأحتاج إلى حجة وصاية كي أغادر العراق وألتحق بأهلي في تركيا، وتستغرق المراجعات في المحاكم العراقية وقتاً طويلاً ومالاً كثيراً للمحامي الذي يتولى دعوى الوصاية، وأنا وحدي من دون معين ولا معيل، ومنظمات المجتمع المدني لا تسعفني”.
تعترف سكينة حسين، الراصدة السورية والمدافعة عن حقوق المرأة والمستقرة في أربيل، بالتحديات التي تواجهها المرأة السورية من دون معيل في العراق، “وهي تحديات تزداد حدةً إن كانت المرأة غير مسلحة بشهادة جامعية تمكنها من الدخول إلى سوق العمل، فتضطر أحياناً إلى العمل في مهن صعبة، في المعامل والمطاعم، فتتعرض للاستغلال”، كما تقول لـ”963+”.
وإذ تنتقد حسين منظمات المجتمع المدني التي لا تؤدي واجبها في هذه المسألة، يساندها رشيد علي جان، المستشار الدولي في مجال حقوق الإنسان رئيس منظمة “جاني روج” في أربيل، شاكياً لـ”963+”: “تخلي المنظمات الدولية عن اللاجئين السوريين في العراق، وتوقفها عن منحهم المساعدات المادية والعينية، يسبّب أزمات حقيقية بين العائلة السورية في العراق، وربما ساهم في زيادة عدد الأزواج الذين تركوا نساءهم وأولادهم ليخاطروا في اللجوء إلى دولة ثالثة، لعلهم يفلحون”، كما يقول، متهماً هذه المنظمات “بالتهاون في الدفاع عن حقوق السوريات في المحاكم العراقية”.
عاجزون متعاطفون
يعترف زكاء الدين جمال، المسؤول في شبكة الحماية الاجتماعية للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في العراق، بأن أوضاع السوريات في العراق “مزرية”، ويقول لـ”963+”: “أنا لا أوافق على الخدمات التي نقدمها للاجئات السوريات، فنحن نقف أمام مشكلاتهن الشائكة عاجزين، ونكتفي بإظهار تعاطفنا معهن فحسب، لكننا نقوم بواجبنا في حدود إمكانياتنا”.
ففي العامين المنصرمين، زاد عدد اللاجئين كثيراً في العراق، وهم من جنسيات مختلفة، “والدول المانحة لا ترفد الدعم الكافي للمنظمات الإنسانية لتغطية مشكلات اللاجئين في العراق”، كما يقول جمال، مضيفاً: “تعاني مراكزنا نقصاً في الموظفين، وكان لنا خمسة مراكز لتسجيل اللاجئين تتوزع على المحافظات المختلفة، لكنها أغلقت كلها، وبقي مركز واحد في بغداد منذ بداية عام 2024”.
ويؤكد جمال أن الدولة العراقية “تصمّ أذنيها ولا تريد الإصغاء إلى مشكلات اللاجئين بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر فيها البلد”.
لسنا في سوق نخاسة!
يرصد علي جان حالات كثيرة تتعرض فيها النساء السوريات للاستغلال في غياب أزواجهن، “فيُجبرن على العمل في المراقص والملاهي والنوادي الليلة، ويرضين بذلك تأميناً للقمة العيش لأطفالهن”.
ولا ينفي جمال إمكانية تعرض المرأة السورية الموجودة في العراق من دون معيل للاستغلال، “وقد رصدنا حالات كثيرة تعرضت فيها السوريات للابتزاز مقابل نقلهن من كردستان إلى بغداد أو إلى المحافظات الجنوبية بحثاً عن عمل”، لكنه ينفي وجود ملاجئ خاصة لحماية هؤلاء النساء وغيرهن، “وإن وجدت، فهي قليلة ولا تغطي كل الحالات”.
كذلك، تعبّر إسراء سلمان، المدافعة عن حقوق المرأة والعضو في “شبكة النساء العراقيات”، عن قلقها “العميق” من الانتهاكات التي تتعرض لها السوريات في بلادها. وتقول لـ”963+” بلهجة حادة: “لقد لجأن إلى العراق طمعاً بالأمن والأمان، وفقدن المعيل لسبب من الأسباب، ويعشن ظروفاً مادية صعبة، لكنهن يلقين معاملة سيئة، وكأنهن معروضات في سوق النخاسة”.
وتضيف: “ما يثير الدهشة فعلاً هو انتشار تسليع السوريات في المجتمع العراقي، كأن يوصفن بأنهن يصلحن للزواج من دون مهور وبأقل التكاليف، والمشكلة أن من يتصدر هذا المشهد هم حقوقيون وإعلاميون من نخب مثقفة”، مناشدةً السلطات المختصة، دولية ومحلية، توفير الحلول السريعة لهذه الآفة الاجتماعية، بالمحاسبة القانونية أولاً، وبالتشريع ثانياً.
في هذا الإطار، تقول القانونية نور الهدى الشرع، إنه “لا تشريع خاصاً باللاجئين في العراق”، مضيفة لـ”963+”: “يجب سن قانون عصري يراعي الجانب الإنساني في هذه المسألة”، فيما يشير جمال إلى أن القانون العراقي الحالي “يعتبر اللاجئ شخصاً متعدياً على قانون الإقامة تجب محاكمته”.
إلى ذلك، تقترح سلمان فتح قناة على مواقع التواصل الاجتماعي، يرعاها تعاون دولي، تعمل على الاستجابة لمشكلات السوريات واستكمال معاملاتهن، وتمكينهن من الإبلاغ عما يتعرضن له.