عقدت الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا العزم على إجراء الانتخابات البلدية في 11 حزيران / يونيو القادم في أكثر من 120 بلدية موزعة على مقاطعاتها السبع، وهي أول انتخابات تجريها الإدارة بعد إقرار عقدها الاجتماعي (الدستور) الجديد نهاية العام الماضي، وأول انتخابات تجرى في المناطق العربية منذ القضاء على تنظيم “داعش”، وثاني الانتخابات البلدية منذ تأسيسها عام 2013. يشارك في هذه الانتخابات حزب الاتحاد الديموقراطي المؤسس للإدارة الذاتية مع الأحزاب الكردية والعربية والسريانية المتحالفة معه، فيما يقاطعها المجلس الوطني الكردي أبرز الكتل المعارضة للإدارة الذاتية، في الوقت الذي لم تحسم فيه بعد القوى السياسية خارج الإطارين موقفها من الانتخابات.
لا شك أن المقاطعة ستلقي بظلالها على الانتخابات والهدف المرجوّ منها، فالوظيفة الأساسية التي تؤديها الانتخابات هي أنها تحول المواطنين إلى محكمين يختارون حسب قناعاتهم من يفضلونه من بين القوى السياسية المتنافسة في المجتمعات الديموقراطية. وعليه، سيعيق الإحجام عن المشاركة في الانتخابات تأدية هذه الوظيفة من خلال الامتناع عن تقديم الخيارات التي يفترض بالناخبين الاختيار فيما بينها، وهو ما سيحول الانتخابات إلى مجرد آلية تصويت شكلية قد تقتصر على تغيير بعض الوجوه الحزبية أو، في أحسن الأحوال، تبادل بعض الأدوار بين الأحزاب المتحالفة. وبما يعيق بالتالي عملية التحول الديمقراطي برمتها في سياق كسياق الإدارة الذاتية.
ثاني مشاكل هذه الانتخابات هي أنها لم ترق حتى الآن إلى أن تصبح “المحكم الوحيد” بين القوى السياسية، ما يجعلها غير ذات جدوى بالنسبة لتلك القوى، فرفض المجلس المشاركة في الانتخابات ليس رفضاً مبدئياً نابعاً عن تمسكهم بالقيم الديموقراطية وخشيتهم من تزوير الانتخابات، إذ لم يعرف عنهم مثل هذا التمسك قبلاً، ولا مطالباتهم أساساً لها علاقة بهذه القيم، بل تقتصر على المطالبة بالمحاصصة الحزبية وتوزيع الموارد مناصفة بينهم وبين الحزب الحاكم، وهذا يعني أنه رفض مصلحي نابع عن توفر قناعة لدى المجلس بقدرته على تحقيق مكاسب أكبر، أو إلحاق أضرار أكبر بالحزب الحاكم، بغير طريق الانتخابات. ما يزيد من هذه اللاجدوى هو تورط أطراف محسوبة على الحزب الحاكم في ارتكاب انتهاكات ضد أحزاب المجلس كأسلوب لإدارة الصراع السياسي معها، ضاربة بعرض الحائط الإدارة الذاتية ومؤسساتها القضائية والأمنية أولاً، وبالانتخابات ثانياً كأسلوب وحيد لإدارة الصراع السياسي.
في ضوء هذه المشاكل، قد يطالب البعض بضرورة تأجيل الانتخابات إلى حين توفر ظروف سياسية أكثر ملائمة، إلا أن هذه النظرة التشاؤمية تنطوي، للمفارقة، على تفاؤل منقطع النظير، تفاؤل بأن الظروف السياسية ستصبح ملائمة في المستقبل لإجراء الانتخابات ولكن دون أن تجرى الآن، كأن يتخلى المجلس الكردي عن المراهنة على قوته السياسية ما وراء الحدود، وأن تصل الأطراف الكردية إلى اتفاق سياسي يؤدي في منتهاه إلى إجراء الانتخابات. ولكن إن كان التشاؤم هو ميزة التحليل السياسي الواقعي، فمجرد تشاؤم بسيط سيدفع بشدة إلى التقليل من إمكانية تحقق هذه الاحتمالات في ظل الوضع الحالي الذي لا يخلق الدافع الكافي لإجراء هذه التغييرات، فرهان المجلس على أن تحمله القوى الخارجية إلى السلطة هو رهان آمن بالنسبة له لا يخسّره شيئاً، إذ إن بقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن يعني أنه بإمكان المجلس الاستمرار بالطعن بالشرعية الشعبية لسلطة الحزب الحاكم، والاستمرار بالمطالبة بالمحاصصة الحزبية المقبولة شعبياً في ظل غياب الانتخابات. كما أن الخسائر التي يتكبدها المجلس في بعض مكاتبه المحروقة إنما لها مفعول عكسي تزيد من التضامن السياسي مع الأول على حساب زيادة الإدانات للإدارة الذاتية.
إذاً، فالحياة السياسية في شمال شرقي سوريا تعيش حالة استعصاء ناتجة عن عوامل تغذي بعضها بعضاً داخل حلقة مفرغة لا نهائية، تبدأ برفض المشاركة في الانتخابات، ما يؤدي إلى إلغائها (رسمياً أو شعبياً) نتيجة عدم توفر المنافسين، وتؤدي بالتالي إلى استمرار إدارة الصراع السياسي بطرق غير ديموقراطية لا يمكنها تشكيل الدافع الكافي لتغيير الستاتيكو، لنعود مجدداً إلى رفض المشاركة في الانتخابات والحفاظ على الوضع الحالي لأنه خيار غير مكلف سياسياً. المطلوب إذاً في هذه الحالة هو أن تكسر هذه الحلقة في نقطة منها، والتي لا يمكن أن تكون عبر إجبار الأحزاب السياسية على المشاركة في الانتخابات، بل عبر التوقف عن إدارة الصراع السياسي بطرق غير ديموقراطية، والذي لن يحصل ما لم تجر الانتخابات البلدية، والبرلمانية بعدها، في أوقاتها المحددة وبمن حضر، على أن تكون انتخابات حرة ونزيهة وتراعى فيها أقصى درجات الشفافية، وبما يسمح للمراقبين المحليين والدوليين بالإشراف على الانتخابات لضمان التزامها بأعلى معايير النزاهة. عندها فقط، ثمة احتمال أن يعتبر المواطنون الانتخابات فرصة حقيقية للتغيير، وهو ما سيضع المقاطعين أمام خيارين: إما المشاركة في الانتخابات وتقديم أنفسهم كبديل أمام المواطنين مقابل استمرار بقائهم سياسياً، أو مقاطعتها مقابل تراجع دورهم السياسي إلى حد الاضمحلال لصالح تشكيل المواطنين قوى شعبية جديدة من خارج الاستقطاب الحالي تجلب البديل المطلوب لتمثيلهم في الانتخابات.
لا يجب التخلي عن إجراء الانتخابات النزيهة رغم ما يعترضها من صعوبات، ولكن ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي لها هو تحقيق نجاح حقيقي في إقناع المواطنين بجدواها، وهو نجاح قد لا تظهر نتائجه إلا بعد وقت طويل من إجراء الانتخابات، وإن حصل فلا بد أن يتمثل في تعبيرات عملية ربما يكون أهمها هو سعي المواطنين إلى خلق خيارات سياسية بديلة تكسر احتكار البنى التقليدية للسياسة، وهي حالة قد يمكن تعميمها على المجتمعات الكردية، التي تعاني من احتكار الأحزاب الكردية التقليدية، كما العربية، التي تعاني من احتكار البنى الاجتماعية التقليدية، والسريانية، التي تعاني من احتكار البنى الدينية التقليدية.