بحضور رئيس الوزراء اليوناني، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن بلاده ستمضي قدماً في تحويل كنيسة أرثوذكسية جديدة في إسطنبول إلى مسجد.
وعلى الرغم من دعوات اليونان إلى عدم المضي قدماً في هذه الخطوة، إلا أن القيادة التركية لم تعد مكترثة، كما يبدو، بما يريده الجانب اليوناني، وترى نفسها صاحبة السيادة على أرضها وتتصرف وفقاً لذلك، ودون مراعاة أو تفهم لمخاوف جارتها.
في المقابل، تبدو اليونان ضعيفة في هذه الأيام، على الأقل إن قورنت قوتها مع جارتها تركيا. هذا الضعف لا يعود لقلة في التسليح ولا إلى قلة دعم الاتحاد الأوروبي لأثينا، إنما لانحناء القيادة اليونانية أمام إرادة تركيا.
العلاقة بين الجارتين اللدودتين مليئة بالقضايا الشائكة والعالقة. ليس استثمار موارد بحر إيجه وحده ما يشغلهما، ولا قضايا الهجرة واللجوء فقط، بل قضايا الدين والجماعات الدينية كذلك. ففي تركيا أقلية مسيحية أرثوذكسية لأثينا وصاية رمزية عليهم، وفي اليونان أقلية مسلمة لأنقرة وصاية عليهم. والوصاية مفهوم مرن، فقد يتعلق الأمر بوصاية رمزية لا تتعدى التصريحات والدعم المعنوي، كما هو حال العلاقة حالياً بين اليونان والأقلية الأرثوذكسية في تركيا، بينما هي جد واضحة وقوية كما هي الحال بين تركيا والأقلية المسلمة في اليونان.
الفرق بين شكلي الوصايتين مرتبط بمدى تأثير الدين في القيادة السياسية لدى كل من البلدين. فإن كان حكام اليونان في هذه الأيام قليلو التأثر بالدين وشؤونه، فإن ذلك ينعكس عدم اهتمام أو سعي جدي لتعزيز مكانة الأقلية الأرثوذكسية في تركيا. بينما في الأخيرة، يختلف الأمر جذرياً، إذ للدين مكانة مهمة لدى القيادة التركية.
لا تزال أثينا، العاصمة الأوروبية الوحيدة التي لا تحوي مسجداً، كما لا يزال مفتي البلاد يُعيّن بعد تدخل واختيار وموافقة الحكومة اليونانية. في المقابل، ليس وضع الأقلية الأرثوذكسية في تركيا أفضل حالاً، فقد خسروا نهائياً متحف “آيا صوفيا” الذي حوّله أردوغان إلى مسجد عام 2020، ويخسرون الآن كنيسة المخلص المقدس الأرثوذكسية الأثرية (خورا) في إسطنبول بعد أن حولها أردوغان إلى مسجد أيضاً.
لهذه الكنيسة الواقعة في إسطنبول أهمية كبيرة في الذاكرة الجماعية لدى أرثوذكس العالم، وتحديداً اليونانيين منهم. فموقعها قرب السور الغربي لمدينة إسطنبول، وتصميمها البيزنطي، وضمها للوحات جدارية ملفتة ونادرة تعود للقرن الرابع عشر، يزيد من قيمتها. بالإضافة إلى أن الكنيسة مسجلة في قائمة “اليونسكو” للتراث العالمي منذ عام 1985.
الدين وشؤونه لا يزالان جزءًا من العلاقة بين الجارتين، تماماً كما كانا في ظلال السلطنة العثمانية وما بعدها حتّى. وفيما يبدو الجانب التركي متحمساً أكثر من اللزوم حول هذا الأمر، يُطرح سؤال حول الجدوى من تحويل كنيسة أو متحف إلى مسجد، طالما تضم تركيا أكثر من 90 ألف مسجد (بنسبة مسجد واحد لكل 866 شخص) بحسب مديرية الشؤون الدينية في تركيا، وهي أكبر عدد أماكن عبادة نسبة لعدد السكان في العالم. بينما في إيران، التي تضم عدد سكان قريب من عدد الأتراك، يوجد حوالي 48 ألف مسجد فقط، فيما مصر، التي تتخطى تركيا من حيث عدد السكان بحوالي 15 مليون فرد، ففيها 67 ألف مسجد بحسب دراسة نشرتها “مؤسسة غاتستون البحثية”.
والواقع أن تحويل أي مركز عبادة في تركيا إلى مسجد لا يتعلق بالسماح للمؤمنين بممارسة عبادتهم، بل يتعلق بثلاثة أمور يرى أردوغان نفسه معنياً بتحقيقها. الأول، يعود إلى رغبته في القول للعالم، وخاصة الأوروبيين، إن بلاده سيّدة نفسها، وليست، كما كانت في الماضي، مطأطأة الرأس أمام رغباتهم وتدخلاتهم الدائمة في شؤونها. يمثل هذا الأمر عمق مفهوم “الأردوغانية”، التي تحمل في طياتها سعياً دائماً للتحرر من القوى الغربية، لتتحوّل إلى قوة إقليمية تتدخل في شؤون العالم ولا يتدخل فيها أحد.
أما الثاني، فهو رغبته في “تنشئة جيل تقي” كما يردد في خطاباته غالباً، فيما تحقيق ذلك لا يتم عبر بناء المدارس وتعليم شؤون الدين للشباب فقط، بل يفترض كذلك “إهداء” هذا الجيل مكاسب ذات طابع ديني، مثل تحويل متحف أو كنيسة إلى مسجد. أما الثالث، والأهم، فهو مرتبط بدوام استمرار أردوغان في تمثيل تيار “الإسلام السياسي” في بلاده، وتحصيل المزيد من الشعبية والشرعية من هذا التيار عبر إعطائه مكسباً إضافياً يتمثل في الظفر بكنيسة “خورا” وتحويلها إلى ما يبتغيه هذا التيار.
عملياً، أراد أردوغان من هذا العمل القول للعالم إنه سيّد بلاده، وإن بلاده سيّدة نفسها، كما القول للأتراك إنه لا يزال يمثل تيار الإسلام السياسي بشكل حقيقي في بلاده، حتى وإن خسر انتخابات بلدية من هنا أو شعبية بسيطة من هناك.
يبقى أن ضعف الجانب اليوناني وقلة حيلته وقدرته على التأثير على قضايا الأقليات في المنطقة، وتحديداً في تركيا، لن يعني في المستقبل إلا ازدياد قدرة أنقرة على التدخل في شؤون اليونان عبر الأقلية المسلمة هناك. حينها، تحقق “الأردوغانية” غايتها وما تصبو إليه في نهاية المطاف؛ التدخل في شؤون الآخرين، ومنع أي أحد من التدخل في شؤون تركيا.