خاص – الحسناء عدره/ دمشق
تؤمن مكاتب السفر والسياحة فرص عمل جادة كثيرة للسوريين، إذ تتمتع بسمعة حسنة راكمتها على مدار سنوات طويلة، فاكتسبت ثقة الناس والمجتمع، حتى صارت بالنسبة إلى شريحة اجتماعية واسعة في سوريا الرديف المرخص لوكالات التوظيف، تؤدي دوراً جوهرياً في توجيه الشباب السوري نحو تحقيق أهدافه المهنية التي تتواءم مع مهاراته العملية.
لكن، يبدو أن هذه الثقة تهتز اليوم، بسبب سيل من إعلانات التوظيف “الوهمية”، التي يتستر أصحابها وراء ما ذكرناه من سمعة حسنة ليستغلوا حاجة الناس إلى العمل اللائق، فيبيعون الشباب أوهاماً بحياة كريمة.
وما يزيد الطين بلةً وجود عدد كبير من مكاتب السفر التي تعمل من دون ترخيص رسمي، تتحول إلى واجهة لأعمال غير قانونية، يحتمي بها “النصابون” من المساءلة، ويفلتون في أغلب الأحيان من العقاب.
تسويف ومماطلة وكذب
انتظرت عبير تسعة أشهر تقريباً، منذ توقيعها عقد عمل مع أحد مراكز التجميل في بغداد بوساطة مكتب سياحي مرخص معروف في مدينة اللاذقية، لم تفصح عن اسمه، وقررت أخيراً ألا تنتظر أكثر، وألا تصغي إلى “وعود شهرية مزيفة باستلام تأشيرة العمل، فقررت فسخ العقد”، كما تقول لـ “963+”، فضاعت سنة من عمرها بلا جدوى.
وتضيف عبير (20 عاماً): “تقاضوا مني مليون ليرة سورية ’رعبوناً‘، على أن يُقتطع مبلغ 200 دولار أميركي من راتبي بعد المباشرة في العمل، ولمدة ثلاثة أشهر، كما صرفت مالاً على شراء بعض الملابس وحقائب السفر وبعض الأشياء الأخرى، ممنية نفسي بأن راتبي الذي وعدوني به سيكفيني وسيكفي أهلي هنا”، علماً أن عبير آتية من عائلة متوسطة الحال، وهذه التكاليف أثقلت كاهلها.
بحسبها، لم يكن هناك أي تواصل مباشر مع مركز التجميل في بغداد، فمكتب السياحة في اللاذقية “هو الوسيط الذي كان يغدق علينا الوعود”… علينا؟ نعم، فهي ليست وحدها، بل هناك 40 فتاة أخرى لا تختلف قصصهن عن قصة عبير، مع المكتب السياحي نفسه.
يتجهّم وجه عبير حين تتذكر “رفيقاتها في هذه البلية” كما تصفهن، وتقول: “خسارتي مقبولة مقارنة بخسائرهن، فهن دفعن مبالغ طائلة بالدولار، ولم يستعدن منها شيئاً، بينما تمكنت أنا من استرداد المليون ليرة بشق النفس، وقررت السفر وحدي من دون وساطة أي مكتب، وأنا أعمل ضمن تخصصي الجامعي، فأنا مهندسة معمارية، وأتقاضى راتباً جيداً”.
في شوارع أربيل
فقدت عبير ثقتها بمكاتب السياحة والسفر، أو بأغلبيتها على الأقل. فهذه، بحسبها، لا تتمتع بأي صدقية، وهمها الوحيد جمع الأموال ممن يبحثون عن فرص عمل حقيقية تسعفهم في تحمل الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد، فتستغلهم في غياب ضمانات تحفظ حقوقهم. ويوافقها عماد في رأيها هذا، بعدما وقع مع مجموعة من رفاقه ضحية احتيال مكتب للسياحة والسفر في طرطوس، وعدهم بأن العمل ينتظرهم في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وسيبدأون به خلال خمسة أيام من وصولهم. وفي أربيل، وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق.
يروي عماد لـ”963+” تجربته المريرة، فيقول: “أخبرونا أن هذا المكتب السياحي يتمتع بعلاقات واسعة في أربيل، وهو قادر على توفير فرص عمل برواتب عالية، فوجدناها فرصة لتحسين أوضاعنا الاقتصادية”. قدم عماد للمكتب جواز سفره، فبقي في عهدتهم أشهراً طويلة، “وعندما سافرنا، وجدت نفسي مع 20 شخصاً آخرين في الشارع، من دون مأوى، إذ كان الاتفاق أن تغطي المبالغ المالية التي دفعتها تأمين المسكن”. ويضيف: “لقد احتالوا علينا بمهارة كبيرة”.
المؤسف في الأمر أن عائلة عماد اضطرت في منتصف عام 2023 إلى بيع عقار بقيمة 15 مليون ليرة سورية لتأمين تكاليف سفره، “فالسفر كان خياري الوحيد كي أتهرب من الخدمة الإلزامية، وأنفقنا قيمة العقار الذي بعناه في إصدار جواز سفر وشراء تذكرة الطيران، ثم اكتشفنا أننا ضحية عملية احتيال محبوكة”، كما يقول عماد، متابعاً: “وجدت عملاً في مطعم، واستدنت 500 دولار تكفيني للعيش شهراً واحداً ولأسدد إيجار منزل مشترك لمدة شهر”.
عذر أقبح من ذنب
لم يكن أحمد أفضل حظاً من عماد وعبير: هيأ نفسه للعمل في التسويق بإحدى الشركات الطبية في دبي، لكن انتهى به المطاف نادلاً في مطعم لبناني.
يروي أحمد قصته لـ”963+” متحسراً على حاله، فيقول: “قدمت على تأشيرة في أحد مكاتب السياحة والسفر في دمشق، بعدما تعهد لي بإيجاد فرصة عمل تلائم خبرتي في التسويق الإلكتروني. وعند وصولي إلى دبي، فوجئت بأن العمل الذي ينتظرني هو ’نادل في مطعم براتب زهيد مع تأمين سكن‘. لم أستطع الرفض لأنني بحاجة ماسة إلى العمل”.
تواصل أحمد مع صاحب المكتب في دمشق، فكان العذر أقبح من الذنب: “الأمر خرج عن سيطرته، وقد أمن لي فرصة العمل نادلاً كبديل مؤقت، كي لا أصرف من حسابي الشخصي، وإنه يعمل على تدبير عمل ملائم لي”. فهل يصدق؟
عشرات الشكاوى
يحثّ المحامي رامي الجلبوط كل من وقع في حبائل هذه المكاتب الوهمية بالتقدم بمعروض إلى النيابة العامة، يشرح فيه ما تعرض له. ويقول لـ”963+”: “تحيل النيابة هذا المعروض إلى السلطات المختصة للتحقيق، وتنظيم الضبط اللازم، لتحريك الدعوى العامة ضد المكتب المحتال”، مشيراً إلى ضرورة أن يتخذ المتضرر صفة الإدعاء الشخصي، ودفع سلفة الادعاء ليحفظ حقوقه.
يصل عدد مكاتب السياحة والسفر المرخصة في دمشق إلى 376 مكتباً، لكن لا يعرف عدد المكتب غير المرخصة. ومنذ بداية العام الجاري، تم تسجيل 11 شكوى بحق أفراد يديرون مكاتب تعمل بلا ترخيص ضمن محافظة دمشق، مقابل تسع شكاوى فقط في عام 2023، بحسب ما قال زياد البلخي، مدير القياس والجودة السياحية في وزارة السياحة السورية، لـ “963+”، مضيفاً أن هذه الشكاوى تقدم خطياً إلى الوزارة أو بواسطة البريد الإلكتروني أو بتطبيق “واتساب” على الهواتف الذكية، مع توثيق كافة المرفقات الضرورية لإثبات الواقعة، كصور عن تذكرة سفر أو تأشيرة أو رحلة خارجية، “ليعاقب بمقتضاها المكتب الغير مرخص بإغلاقه وإحالة أصحابه إلى الأمن الجنائي، وهذا ما يحصل في أغلبية الحالات. وإن تكررت الواقعة، يُحال صاحب المكتب إلى النيابة العامة بتهمة مزاولة المهنة من دون ترخيص، وفقاً لقانون العقوبات العامة”.
وينصح المحامي رامي الجلبوط السوريين بتوثيق أي مبلغ يدفعونه للمكتب السياحي، من خلال إيصال رسمي موقع من إدارة المكتب وممهور بختمه، مبين فيه سبب الدفع. ويقول لـ”963+” إن هذا الإيصال “هو الدليل اللازم لإثبات واقعة الاحتيال إن حصلت، ومن دونه يصعب تقديم الشكوى لتحصيل الحقوق”.
مظلة أمان
يذكّر الجلبوط بالمادة 641 من قانون العقوبات العامة السوري، التي تنص على الآتي: “كل من حمل الغير على تسليمه مالاً منقولاً أو غير منقول، أو أسناداً تتضمن تعهداً أو إبراء، فاستولى عليها احتيالاً، إما باستعمال الدسائس أو بتلفيق أكذوبة أيّدها شخص ثالث ولو عن حسن نية، أو بظرف مهد له المجرم أو ظرف استفاد منه، أو باستعماله اسماً مستعاراً أو صفة كاذبة، عوقب بالسجن من ثلاث إلى خمس سنوات مع دفع غرامة مالية من عشرة آلاف إلى خمسين ألف ليرة سورية”، مؤكدا أن المحكوم بهذا الجرم “لا يستفيد من الأسباب المخففة التقديرية، أو من وقف التنفيذ، أو وقف الحكم النافذ، إلا في حالة إزالة الضرر”.
إلى ذلك، يؤكد طلال، الموظف في مكتب “مجد كناني للسياحة والسفر” في محافظة اللاذقية، أن تأمين فرص العمل من طريق المكاتب المرخصة والموثوقة “ليس إجراءً قانونياً فحسب، إنما هو مظلة أمان تحمي الشخص من الأحداث غير المتوقعة التي قد تحدث في البلد المضيف”، ويرى أن المكاتب غير المرخصة، التي تنتهج سياسة الاحتيال تسيء كثيراً لقطاع السياحة والسفر، وللمكاتب الشرعية، وللشباب السوري.
والمريب أيضاُ أن مكاتب السياحة والسفر غير المرخصة وغير القانونية لا تكتفي بالاحتيال على الناس لنهب أموالهم، بل تمعن في أذيتهم من خلال محاولاتها شرعنة عملها، فتضم تحت جناحها محامياً لإيهام الناس بقانونيتها، وهو من يتحجج دائماً بأن التأخير في تنفيذ الوعود ناتج من عراقيل وإجراءات روتينية تؤخر إصدار التأشيرات… إلى أن يتبين زيف الوعود، ويكون الضرر قد وقع، وتشرّد الشباب السوري في أصقاع الدنيا، يدفع باهظاً ثمن سعيه إلى تأمين حياة كريمة، له ولعائلته.