خاص- حياة الزين/بيروت
“لما جيت على لبنان ما كنت بسن الهوية. ولما اتزوجت، كتبت كتاب برّاني عند الشيخ، بدون ما ثبته بالمحكمة. كرمال هيك، ما حسِنت طالع أوراق ثبوتية لأولادي اللي خلقوا هون”. بهذه العبارة، تختصر منال حالةً سورية خطيرة منتشرة في لبنان.
لجأت منال إلى لبنان وهي لم تتجاوز العاشرة بعد، وهذا سن لا يخول السوري الحصول على هوية. فوفق القانون، لا هوية إلا بعد بلوغ 14 عاماً. كانت منال في السادسة عشرة حين تزوجت بـ “كتب كتاب براني”، وهذا زواج يُعقد أمام الشيخ من دون إثباته في المحكمة. نتج عن هذا الزواج ولدان، لم تستطع منال تسجيلهما في السجلات الرسمية. فزواجها نفسه في الأصل غير مثبت في المحكمة، لذا اكتفت بالحصول على شهادتي ولادة لهما.
استمرت منال في ملاحقة موضوع تثبيت زواجها وتسجيل طفليها من خلال “المجلس النرويجي للاجئين”، إلا أن جائحة كورونا شلّت لبنان والمؤسسات العاملة فيه، فتوقّف ملفها، ولم تُجدِ محاولاتها المتكررة لإعادة تحريكه نفعاً. تشير جمعية “كلنا عائلة وأهل” اللبنانية، المهتمة بحقوق الأطفال والعائلة، إلى أن إهمال الأزواج تسجيل أولادهم يكون في أغلب الأحيان “السبب المباشر والأساسي لحرمان هؤلاء الأطفال من حقوقهم الطبيعية”، إضافة إلى أن المعاملات الرسمية تتطلب الكثير من الإجراءات والمال، وترزح تحت ثقل الروتين الوظيفي، وهذا يؤخر إجراء هذه المعاملات، ويمنع حصولها أحياناً”.
روان لاجئة سورية تعيش في مخيم البيرة في عكار، شمال لبنان، منذ 13 عاماً. إنها أم لأربعة أطفال، وُلِد اثنان منهم في سوريا، واثنان في لبنان. لم تتمكن روان من تسجيل طفليها اللذين أنجبتهما مؤخراً بسبب الرسوم المرتفعة، فاكتفت باستخراج شهادة ولادة لكل منهما، من دون تنفيذ الإجراءات الأخرى لتثبيت ولادتهما في دوائر النفوس، كما تقول لـ”963+”.
وتقدر وزارة الصحة اللبنانية، في تقرير نشر بداية العام الحالي، أن عدد الولادات السورية في لبنان قارب 120 ألفاً بين عام 2015 ونهاية العام الماضي، 80 ألفاً منها خارج المستشفيات وهي، بالتالي، ولادات غير مسجّلة بشكل رسمي، وتُنتج أطفالاً مكتومي القيد في حال عدم متابعة الأهل إجراءات التسجيل.
عوائق مختلفة
يستدعي تسجيل الأطفال السوريين الذين يولدون في لبنان بشكل رسمي الحصول على شهادة ولادة يوقعها طبيب أو قابلة قانونية في المؤسسة أو المستشفى حيث تمّت الولادة، ثم استصدار وثيقة ولادة من مختار المنطقة التي حصلت فيها الولادة، وتسجيل هذه الوثيقة لدى قلم النفوس الأقرب إلى مكان الولادة.
بعد ذلك، ينبغي تنفيذ وثيقة الولادة لدى سجل وقوعات الأجانب على مستوى المحافظة، إضافة إلى تصديقها في وزارة الخارجية اللبنانية، قبل إدراجها في سجلات السفارة السورية في لبنان، التي ترسلها بدورها إلى وزارة الداخلية السورية، لإثباتها في السجلات المدنية.
في هذا الإطار، تشير دلال حرب، المتحدثة الإعلامية باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى وجود عوائق كثيرة يواجهها اللاجئون في تسجيل مواليدهم: “افتقارهم إلى وثائق الهوية، وإلى الإقامة القانونية (لا تزال مطلوبة لأحد الزوجين)، والعجز عن دفع الرسوم، وقلة الوعي بأهمية هذه الخطوة ومتطلبات عملية التسجيل”.
تضيف لـ963+”: “بعض اللاجئين الذين تزوجوا في سوريا يفتقرون أيضاً إلى إثبات الزواج، إما لأنهم لم يسجلوا زواجهم في سوريا أو لعدم حيازتهم الوثيقة التي تثبت هذا الزواج، ولا يمكن الحصول عليها إلا من سوريا أو من السفارة السورية. في غياب هذا الإثبات، لا يمكن تسجيل ولادة الأطفال المولودين في لبنان”، فيما تقول غيتا حرب، رئيسة “دائرة الإحصاءات الحيوية والصحية” في وزارة الصحة اللبنانية، إن معظم اللاجئات السوريات يفضلن الإنجاب خارج المستشفيات وذلك لأسباب عدة، منها الخوف من الولادة القيصرية، وهذا عامل ثقافي – اجتماعي، “إضافة إلى عامل آخر مرتبط بخفض الدولة اللبنانية مساعدات التغطية الصحية في عام 2018”.
آثار قانونية
يقول المحامي السوري عبد الناصر حوشان لـ “963+” إن اللاجئين السوريين في لبنان الذين لا يملكون أوراقاً ثبوتية هم الفئة الأكثر تضرراً، لأنهم يُعدّون وفقاً للقانون من فئة “عديمي الجنسية”، من منطلق أن الجنسية في القانون السوري هي من الأثار القانونية لتسجيل المواليد، أو “مكتومي القيد” في سجلات الأحوال المدنيّة أو “النفوس”، وبالتالي كل طفل لم يُسجّل في سجلات الأحوال المدنية لا يتمتع بالمواطنة السورية، وبالتالي لا يتمتع بالجنسية السورية.
يُقدر عدد مكتومي القيد في لبنان بنحو 60 ألفاً على الأقل، بحسب أرقام وزارة الداخلية اللبنانية، وهذا رقم تراه جمعية “كلنا عائلة وأهل” متواضعاً جداً نسبة لما هو موجود على أرض الواقع.
وبحسب المرسوم التشريعي رقم 26 لعام 2007 وتعديلاته، يُعّد “مكتوم القيد” من كان والده أو والدته مسجلين في القيود المدنية السورية، أو ينتمي أصله إلى الجمهورية العربية السورية ولم يُسجل ضمن المدة المحددة للتسجيل في قيود السجل المدني، أي خلال ثلاثين يوماَ من حدوث واقعة الولادة.
إضافة إلى ذلك، يثير الزواج العرفي الذي لا يُسجل ضمن القيود المدنية مشكلة مكتومي القيد بشكل كبير، خصوصاً أن الولادة – إن حصلت – تكون نتيجة زواج غير مثبت في القيود المدنية. فالمادة 26 من قانون الأحوال المدنية تشترط تسجيل الزواج قبل واقعة الولادة. وتزداد المشكلة تعقيداً لمن ولِدوا خارج سوريا في دول اللجوء، خصوصاً لبنان، على الرغم من منح الوالدين سند إقامة بموجب تسجيل لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وبحسب إحصائيات هذه المفوضية، ولد 193 ألف طفل سوري في لبنان منذ بداية الحرب السورية، فيما تشير “رابطة المحامين السوريين الأحرار” إلى أن وقوعات ولادة أغلبيتهم لم تسجل في دوائر الأحوال المدنية السورية، ما يجعلهم “مكتومي القيد”، لأنهم لا يحملون الجنسية السورية.
جيل بلا حقوق
إن التقصير في تسجيل ولادات الأطفال السوريين الذين وُلدوا في لبنان في دوائر النفوس يعني نشوء جيل كامل من الأطفال “مكتومي القيد”، وهذا أمر سيحرم هؤلاء الأطفال من سلة واسعة من حقوقهم لاحقاً، أبرزها الحق في التعلم، ولا سيما الحصول على الشهادات الرسمية والجامعية. كما سيخسر هؤلاء حقهم في العمل اللائق، فيصبحون عرضة لعمالة الأطفال والاستغلال بمختلف أشكاله، إضافة إلى إمكانية انخراطهم في أعمال مشبوهة، مثل عصابات تجارة المخدرات والسرقة وغيرها.
إلى ذلك، فقدان هؤلاء الأطفال الوثائق التي تعرّف عنهم يعني خسارتهم حقهم الطبيعي في الاستشفاء والسفر والحصول على الخدمات والمساعدات الاجتماعية، إضافة إلى خسارتهم حقوقهم السياسية في بلدهم الأم، عدا عن خسارتهم حقوقهم العائلية كالإرث والزواج الشرعي وغير ذلك.