“وعندما يضرب رب البيت بالدفّ!”… بعين دامعة قليلاً، يتأوه السوري الخمسيني “أبو نزير” متحسّساً خدّه، بعدما صفعه شبان لبنانيون أصغر من ابنتيه سناً أمام عائلته في منطقة عرمون بجبل لبنان، على بعد نحو 20 كيلومتراً إلى الشرق من بيروت.
المفارقة، في هذه الفوضى العارمة، أن “أبو نزير” هذا ليس لاجئاً سورياً. يقول لـ”963+”: “كلا، لست لاجئاً. فأنا موجود في لبنان منذ عام 2007، وأحمل الجنسية اللبنانية منذ عام 1994، وكنت حينها في أوائل عشرينياتي، لكنني ما تخليت يوماً عن لكنتي السورية”.
تزوج “أبو نزير” لبنانيةً من إحدى القرى البقاعية، وهو مستقر في هذه البلدة منذ أكثر من 10 أعوام، ويعمل في أحد معامل الرخام بالمنطقة. وهو لم يخالف القوانين في لبنان – ولا في أي مكان – يوماً. ابنتاه منتسبتان إلى الجامعة اللبنانية، وهو يكرّس حياته كلها لدراستهما، “علّ الحظ يخدمهما وتغادران بلاد العرب كلها إلى حيث يكون الإنسان محترماً”، خصوصاً بعدما تعرض له من مهانة وضرب بسبب موجة الكراهية المتنامية للسوريين في هذا البلد.
لعقدين من الزمان، لم يشعر “أبو نزير” يوماً أنه يعيش في بلد غير بلده. يروي: “في هذه البلدة، لم أجد إلا وجوهاً بشوشة وصدوراً مرحبة، حتى آمنت فعلياً أننا شعب واحد في بلدين. فلم يعاملوني يوماً معاملة الغريب، ولم اسمع منهم يوماً إلا أنني ’منهم وفيهم‘”.
تقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن في لبنان ما يزيد على 1.5 مليون لاجئ سوري، ونحو 14 ألف لاجئ من جنسيات أخرى. يعيش 90 في المئة من اللاجئين السوريين في فقر مدقع، وتبرز منطقة البقاع المنطقة الأعلى كثافة باللاجئين في لبنان.
ماذا تغيّر؟
يقول أحد مخاتير عرمون، الذي يفضل ألا يذكر اسمه هنا لأسباب “رسمية” (كما يصفها)، إن لا فضل للبناني على سوري في هذه البلدة “إلا بصالح الأعمال”. يضيف لـ”963+”: “قد لا تجد عائلةً هنا من دون صلات قربى بعائلات في سورية، بالنسب أو المصاهرة، حتى أن بعض السوريين عاد يفتش عن جذور لأجداده، ويبحث عن ’أرومة‘ له في سجلاتنا، كي يستعيد جنسيةً فقدتها عائلته بعد انقطاع جده أو جد جده عن لبنان، فلم يشمله التعداد، واعتبر غير لبناني”.
والأرومة هذه هي آخر إثبات في سجلات الأحوال الشخصية بدوائر النفوس في وزارة الداخلية اللبنانية لمواطن أو مواطنة من لبنان، لم يشملها آخر تعداد سكاني جرى في عام 1972. فإن وجد سوري أرومة أحد أجداده في هذه السجلات، حقّ له أن يتقدم من المحاكم اللبنانية كي يستعيد جنسيته اللبنانية المفقودة.
وبحسب المختار نفسه، تبدّل الوضع في الآونة الأخيرة، لسببين: “أولاً، تكرار الحوادث التي نسبت إلى سوريين؛ وثانياً، الخطاب الشعبوي الذي تتناقل عدواه كما الوباء من دون تفريق”، فيردّ منع السوريين من التجوّل بين السادسة مساءً والخامسة صباحاً إلى تصرف يصفه بـ “الصبياني غير المسؤول”، الذي ينتج من خطاب تحريضي “أعمى” يعمّ البلد.
يقول المختار: “من يحرّضون اليوم على اللاجئين السوريين هم أنفسهم من دعا إلى فتح الأبواب واسعة أمامهم منذ عام 2011، وهم أنفسهم من استفادوا من وجودهم في البلد”. من تقصد؟ يجيب: “السلطة”.
يقول المحامي والناشط الحقوقي اللبناني واصف الحركة إن السلطة اللبنانية تهرب من مشكلاتها الداخلية بوضع اللبناني في وجه اللاجئ السوري. ويضيف لـ”963+”: “ههذ السلطة تستثمر في أزمة اللجوء السوري اليوم كي تُنسي اللبناني أزماته الاقتصادية والاجتماعية التي تسببت بها هي نفسها، وتستخدم اللاجئين السوريين لتصفية حسابات سياسية ضيقة، ولزيادة قدرتها السياسية في الداخل اللبناني لا أكثر”، متوقعاً ألا ينجر الناس كثيراً وراء السياسيين في هذه المسألة، لسبب واضح: “الشعب اللبناني لا يثق فيهم، بل يحملهم مسؤولية الفشل في تدبير اللجوء السوري منذ بدايته”.
عصبيات عمياء
يضحك “أبو نزير” عندما يحاول الكلام “بالقاف” المشددة، كما يفعل جيرانه من الموحدين الدروز. يقول: “أنا في الأصل من حوران، السهل الذي يتاخم السويداء في جنوب سوريا، وهنا، ما دمت آتٍ من حوران، فأنت حوراني، أي أنت موحد درزي”. في البداية، كان يكرر على مسامعهم أنه ليس كذلك، “بلا جدوى، فكما قال لي أحدهم ’بعد 40 يوم، يا بتصير منا يا بترحل عنا، وانت لك في ديارنا 10 سنين‘”.
يقول المختار: “في عام 2011، عندما بدأ تدفق اللاجئين من سوريا إلى لبنان، كانت المعادلة كالآتي: ’مو كل السوريين ملاح، ومو كل اللبنانيين عاطلين‘. اليوم، انقلبت المعادلة: ’مو كل السوريين عاطلين، ومو كل اللبنانيين ملاح‘. والمصيبة أن السوري الصالح يذهب بجريرة السوري الطالح، وهذا بالضبط ما جرى مع ’أبو نزير‘ بكل أسف”.
يرى الدكتور خطار أبو دياب، الباحث السياسي واستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس، أن كلمة عنصرية “قاسية قليلاً”. ويضيف لـ”963+”: “في فورات الغضب، تتظهّر العصبيات فتلغي عمل العقل. وما يحصل اليوم في لبنان هو مزيج من عصبيات ترفدها ألاعيب سياسية داخل مأزق أخلاقي لبناني”.
ويوافق الحركة هذا الرأي، مؤكداً أن لا عنصرية، “إنما هناك أصوات العنصرية، والدليل أن لبنان لم يشهد وقوع جريمة عنصرية واحدة بشكل عام، وضد السوريين بشكل خاص، ولم يشهد جريمة كراهية حتى”، معترفاً بوجود ردات فعل شخصية وموضعية لا أكثر، وبحصول مشادات وحتى اشتباكات بين عمال سوريين وآخرين لبنانيين.
ويعقب أبو دياب قائلاً: “برأيي، صدر في الأردن وتركيا إشارات عنصرية ضد السوريين أكثر مما صدر في لبنان، لكن في هذين البلدين سلطة قوية، وحد أدنى من القانون يفرض احترامه على الجميع، وهذا ما يصنع الفارق”.
إنهم أقوياء!
لكن، ترى منال المشهد من زاوية مختلفة، إذ تقول لـ”963+”: “أي عصبية هذه التي تدفع ببعض ’الأقوياء‘ إلى تسليط كلابهم علينا بحجة البحث عن المخدرات؟”.
ومنال هذه لاجئة سورية من إحدى قرى إدلب، تحمل شهادة دبلوم في التجارة وكانت تعمل مساعدةً إدارية في شركة كبرى. تروي: “في أول أيام التظاهرات السلمية في الثورة السورية، أصيب زوجي برصاص العناصر الأمنية التابعة للحكومة السورية، فصار شبه مقعد. بعدما اندلعت الحرب، لجأت إلى لبنان في عام 2013، وأنجبت هنا ثلاث بنات وصبيين”، وهي تعمل الآن عاملة منزلية في منطقة الشويفات، إلى الشرق من بيروت.
سكنت منال وعائلتها في أحد المنازل الصغيرة في حي الليلكي بالضاحية الجنوبية لبيروت، وبقوا فيه حتى أول أيام العام الحالي، “ثم انتقلنا إلى منزل آخر في الشويفات، بعدما صار الوضع هناك لا يطاق”، كما تقول.
تتابع: “كنا في حالنا، وفي خلال 11 عاماً، نسجنا صداقات عدة في ذلك الحي. فالكل يعرف أن لا ناقة لزوجي في مسائل السياسة، ولا جمل، وهو يكاد لا يستطيع الحراك. وبلحظة، صرنا أعداءهم، وصار مسلحون تابعون لأحد الحزبين النافذين هناك يدقون بابنا ليلة بعد أخرى، مرة بحجة التفتيش، ومرة بحجة التأكد من الهويات، ومرة بحجة الاطلاع على الأوراق الرسمية، علماً أن أوراقنا نظامية جداً، ومرة بحجة التحقيق في انتماء زوجي إلى أحد التنظيمات الإرهابية، وأخيراً أتوا بكلابهم المخيفة بحجة البحث عن مخدرات”.
تتابع منال: “المصيبة أنهم يعرفوننا حلة ونسباً، فما سبب هذا الحقد؟”.
ديموغرافيا وديماغوجيا وأيديولوجيا
يعترف “أبو نزير” بأن في نفوس بعض اللبنانيين حقد دفين على “السلطة السورية التي وقعوا تحت وصايتها ثلاثة عقود تقريباً، والسوري في نظر كثيرين هو ممثل هذه السلطة، علماً أن أغلبية اللاجئين موجودون هنا لأنهم لا يريدون أن يعودوا إلى كنف هذه السلطة نفسها”، كما يقول.
ويرى أبو دياب أن ثمة سوء فهم قديم بين اللبنانيين والسوريين، منذ الوجود العسكري السوري في لبنان، وثمة مقاربة خاطئة للأزمة. ففي أيام النفوذ العسكري السوري في لبنان، كان بعض المسؤولين اللبنانيين الموالين للحكومة السورية يجنسون سوريين على مذهبهم السياسي والطائفي والمذهبي، وحتى الديموغرافي، وهذا ليس سراً أبداً، كما يقول “أبو نزير”، فهو حصل على الجنسية اللبنانية بهذه الطريقة ولأحد الأسباب الذي ذكرها. يضيف: “هذا الأمر يظهر جلياً في استخدام الصوت السوري لتغليب جماعة على أخرى في الانتخابات البرلمانية اللبنانية. وبما أن كل شيء في لبنان يأخذ شكلاً طائفياَ، ويريد الطائفيون اليوم حشر السوريين في مسائلهم الخاصة، ليستغلوا وجودهم لمآرب الطائفية المختلفة”.
ربما لا يكون هذا الكلام مجافياً الحقيقة، في مكان ما. فبحسب لوائح وزارة الداخلية اللبنانية، ورجوعاً إلى لمرسوم التجنيس الجماعي الصادر في عام 1994، بلغ عدد المجنسين السوريين 202000 سورياً، توزعوا كالآتي: 51071 من المسيحيين، و150929 من المسلمين، أي بفارق 100 ألف مجنس لصالح المسلمين.
ويفتح الكاتب السياسي منير الربيع اليوم ملف انتماءات اللاجئين السوريين في لبنان، فيقول في موقع “المدن” إن إحدى المشكلات الأساسية مع اللاجئين هي “تصويرهم من مذهب معين”، وهذا برأيه يشكل تحدياً لأبناء المذاهب أو الطوائف الأخرى في لبنان، بعيداً عن الانتماء السياسي “السوري” للاجئ السوري في لبنان، أي مع الحكومة السورية أو ضدها.
ويضع الربيع اصبعه على الجرح حين يرى “الديماغوجيا” التي تغطي المسألة السورية برمتها في لبنان، وحين يرى أيضاً الخطورة كامنةً في محاولة تسعير المواجهة بين اللبنانيين والسوريين بحملات تتخذ طابعاً سياسياً وأيديولوجياً، داعياً إلى مقاربة موضوعية لهذه المسألة، “بعيداً عن إحياء أي صيغة طائفية أو مذهبية لصناعة عصبية متجددة، تشكل رداً على عصبيات أخرى شيعية أو سنية”. ويقول الربيع: “هناك من يريد حصر مشكلة اللاجئين في البيئة المسيحية، لتحقيق أهداف سياسية باستخدام ملف اللاجئين في سياق بناء رأي عام اجتماعي موحد في مواجهة الطرف الآخر سياسياً، وانطلاقاً من مبدأ أن ’حزب الله‘ يطبق فيدراليته ولا بد للآخرين من تطبيق فيدراليتهم، التي قد يشكل ملف اللجوء مدخلاً لها تحت عنوان ’التهديد الوجودي‘”، مؤكداً أنه لا يمكن تصوير مشكلة اللاجئين السوريين بأنها مشكلة للمسيحيين، “إنما هي مشكلة للسوريين واللبنانيين بكل أطيافهم معاً”.
يحركون سوق العمل
أهي إذاً عصبيات اقتصادية-اجتماعية؟ يقول أبو دياب إن النفور الذي يتخذ أحياناً أشكالاً تقترب من العنصرية يظهر في دول تعاني أزمات اقتصادية، “والدليل أن اللجوء السوري لم يسبّب أي مشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية قبل عام 2019، أي قبل اندلاع الأزمة المالية اللبنانية، علماً أن زخم هذا اللجوء كان في أوجه بين عامي 2013 و2016”.
يضيف: “في ظل عدم تنظيم اللجوء السوري في لبنان، حوّل التدهور الاقتصادي اللجوء السوري إلى ورقة سياسة، وما يثار اليوم عن هبة المليار يورو من الاتحاد الأوروبي للبنان يدخل في سياق المهاترات السياسية الداخلية اللبنانية لا أكثر، فالاتحاد يدفع منذ بداية اللجوء السوري، وما زال”.
فمنذ عام 2011، قدم الاتحاد الأوروبي دعماً مالياً كبيراً للبنان تجاوزت قيمته 860 مليون يورو. وقد خصص هذا المبلغ في المقام الأول لتلبية احتياجات اللاجئين السوريين، بحسب تقارير نشرها موقع “ريليف ويب”.
وفي عام 2022، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم 70 مليون يورو كمساعدات إنسانية للبنان، بما في ذلك 20 مليون يورو لدعم الفئات الأكثر ضعفاً، من خلال دعم الغذاء والخدمات الصحية ومساعدات الحماية، ثم تعهد تقديم 50 مليون يورو إضافية لتلبية احتياجات اللاجئين السوريين في لبنان خلال مؤتمر بروكسل السادس لدعم مستقبل سوريا والمنطقة، في أيار/مايو من العام نفسه. في 30 أذار/مارس 2023، أعلن الاتحاد عن مساعدات إنسانية جديدة بقيمة 60 مليون يورو للبنان لتوفير المساعدة المنقذة للحياة، مثل الغذاء والدعم النقدي والتعليم والخدمات الصحية للفئات الأكثر ضعفاً، بما في ذلك اللاجئين السوريين واللبنانيين المحتاجين.
وأخيراً، في مايو 2024، بعد مؤتمر بروكلس الأخير، كشف الاتحاد الأوروبي عن حزمة مساعدات بقيمة مليار يورو للبنان على مدى ثلاث سنوات لدعم التعليم والحماية الاجتماعية والرعاية الصحية للاجئين السوريين واللبنانيين المستضعفين، فضلاً عن الإصلاحات الاقتصادية. وسيتم تخصيص نحو 736 مليون يورو منها لإدارة التحديات المرتبطة باستضافة اللاجئين السوريين.
يقول الحركة إن عدداً كبيراً من اللبنانيين يعرفون قيمة اليد العاملة السورية، “وتعترف بعض الجهات الاقتصادية اللبنانية بأن ثمة سوريين أتوا بأموالهم إلى البلد، وكانوا جزءاً من نمو اقتصادي ما”، فيما يجزم أبو دياب أن سوق العمل في لبنان “يتوقف إن توقف العامل السوري عن العمل، خصوصاً في قطاعي الزراعة والبناء”. وهذه الحقيقة دعوة صريحة لعودة الجميع إلى العقل.