خاص ـ طارق علي / دمشق
ظنَ الناس في سوريا أن الجرب وباء اختفى إلى غير رجعة، لكنه فاجأهم وعاد ليظهر بينهم من جديد، ومعه باقة من الأمراض الجلدية الأخرى. فقد سُجِلَ أخيراً تنامٍ واضحٌ في تفشي الثآليل وحبّ الشباب والجذام واللشمانيا وغيرها، ما يستدعي استنفاراً وبائياً عاماً، وصوغ خطّة صحية محكمة، للحؤول دون تحول هذه الأوبئة إلى حالات عامّة تهدد الصحة المجتمعية كلها.
يقول مصدرٌ إداري طبّي لموقع “963+” إنّ ثلاث إلى خمس من كل عشر حالات تعاني مشكلات جلدية في هذه الفترة تصاب بأحد هذه الأمراض الوبائية، “وهذه نسبة مرتفعة جداً ومقلقة جداً، قياساً إلى معدلات انتشار الأمراض المتعددة خلال أيٍّ من سنوات الحرب الفائتة، بل إنّها الأعلى منذ عقود طويلة”.
ويُجمع أطباء وأفراد في الطواقم الصحيّة المعنية بمقاومة التفشي الوبائي، التقاهم موقع “963+” بين دمشق وحمص، على أنّ انتشار هذه الأمراض ناتج من قلّة النظافة القسرية التي فرضتها الشروط العامة من تلوث وانعدام سبل الوقايّة الأوليّة، ومن رداءة مستحضرات التنظيف المحلية التي يعتمدها السوريون بدلاً من الأجنبية التي ارتفع ثمنها، ومن الاكتظاظ السكاني، إلى أسباب أخرى كثيرة.
عشرة أضعافها!
يقول أيهم النقري، الطبيب المتخصص في علاج الأمراض الجلدية والمحاضر في جامعات عدة، لـ”963+”: “أكثر الأمراض المنتشرة اليوم، أو التي عادت إلى الانتشار، هي الأمراض الطفيلية، كاللشمانيا والقمل والجرب وغيرها، وتعتمد في إصابتها على الأخماج الطفيلية”، راداً عودتها إلى ضعف وسائل الوقاية من الطفيليات وسبل مكافحتها.
ويضيف النقري: “الإحصائيات واضحة في إبراز الازدياد الكبير جداً في عدد الإصابات، والتي تعادل عشرة أضعافها في السنوات السابقة بالقياس السنوي والتقسيم بين مرحلتين زمنيتين: ما قبل عام 2011، وما بعد عام 2018 حتى اليوم”.
وتوضح طبيبة التجميل هبة هولا لـ”963+” أنّ هناك نوعين من الأمراض الجلدية، معدية وغير معدية، “فالأمراض الجلدية المعدية مثل القمل والجرب والثآليل والقوباء وجدري الماء والهربس والحزام الناري والجذام، أما الأمراض الجلدية غير معدية فأبرزها الأكزيما والصدفية والشرى (الطفح الجلدي)، وللأسف النوعان منتشران جداً في سوريا بسبب سوء الأحوال المناخية والبيئية والصحية والنفسية”.
مرضٌ معيب
أصيب الشاب الدمشقي مازن علي بالجرب قبل مدّة قصيرة وتماثل للشفاء، لكنه نقل العدوى إلى أفراد عائلته. يقول لـ”963+”: “كلمة جرب في سوريا تشبه وصمة العار. إنه مرض مزعج لا يحتمل، جربت علاجات منزلية وعلاجات العطارين والطب الشعبي من دون نتيجة، فاستكملتُ علاجي في مستشفى بدمشق، من خلال المطهرات والمعقمات والأقراص الفموية”.
يضيف مازن أن العلاج الذي تناوله لم يشفه في المرة الأولى، ولا في المرة الثانية، “واضطررت إلى سلسلة ثالثة من الجرعات، وكذلك يحصل الآن مع أسرتي”. لا تبدو المفاجأة على وجه النقري حين يسمع هذا الكلام، فيقول: “صارت هذه الآفات الجلدية معاندة للعلاج، لذا يستوجب إخضاع المريض لأكثر من ’كورس‘ علاجي للحصول على نتيجة مرضية”، علماً أن أدوية الأمراض الجلدية كانت توزع مجاناً في السابق، بينما يضطر المريض اليوم إلى شرائها بأثمان عالية.
إلى ذلك، أثارت جائحة كورونا عاصفةً من الأمراض الجلدية، أتت نتيجة مباشرة للإصابة بالفيروس أو غير مباشرة مرتبطة بطرق العلاج. تقول هولا، إنّ من بين أبرز الأمراض المرتبطة بكورونا تورم الأصابع وتفشي الحويصلات والشرى (الطفح الجلدي) وأنواع أخرى من الطفح (مظهر يشبه النخالية الوردية) والنخر (التزرق الشبكي).
تقول مها بويضاني، المقيمة في ريف دمشق والتي ردّ الأطباء إصابتها بالطفح الجلدي إلى مخلفات كورونا، لـ”963+”: “أصبت بأحد متحورات الفيروس الأخيرة، وقضيت شهرين مريضةً من دون علاجٍ فعلي”. ويقول طبيبها اليوم إنّ ما تعانيه من طفح جلدي إنما هو ناتج من تفاعلات الأدوية مع المرض، وليس المرض نفسه.
في مناطق نائية
تشدد هولا على أهمية عدم إغفال سوء مواطن المعيشة، وعدم توفر شروط النظافة بسبب نقص المياه النظيفة والصالحة للشرب، فيما يزيد النقري سبباً مهماً هو وجود الإنسان في بيئة غير صحية، موضحاً: “تنقل أنثى ذبابة الرمل أو الفاصدة وباء اللشمانيا فيتفشى بين الناس، لكن هذه الحشرة لا تظهر إلا في مستنقعات المياه الآسنة، وفي غياب رش المبيدات في الأحراش”، مذكراً بأن الحرب دفعت بالسوريين إلى السكن في مناطق نائية لم تكن مأهولة من قبل، كثير منها غير ملائم للحياة البشرية بسبب تلوث مصادر المياه فيها، “فإن أصيب إنسان بلدغة هذه الحشرة هناك، ثم انتقل إلى مكان آخر، فهو يحمل المرض وينقله معه أينما ذهب”.
وتعقّب هولا على ما يقوله النقري مضيفةً أنّ الاكتظاظ السكاني في مناطق كثيرة أدى دوراً سلبياً جداً، خصوصاً في مناطق تغيب فيها قنوات الصرف الصحي، “فهذا الأمر يضعف الجهاز المناعي عند الإنسان، مضافاً إلى الإرهاق الناجم عن المصاعب الحياتية، وإلى التداعيات العصبية والاضطرابات الهرمونية التي تترافق مع نقص في الفيتامينات والمعادن بسبب تدني مستوى الأمن الغذائي وفقدان اللقاحات الروتينية للأطفال، فهذه كلها عوامل يجب الحدّ منها لمنع تطور الأوبئة واستفحالها”.
موادٌ ضارّة
إلى ذلك، يفرض الواقع المعيشي المتردي على العائلات السوريّة شروط نظافةٍ قسرية غير موائمة للظروف الرقابية والصحية التي من شأنها تأمين حماية مستدامة للجسد والبشرة والشعر. فبسبب غلاء أسعار منتجات الاستحمام والغسيل الأجنبية، يستخدم السوريون أصنافاً محلية معظمها مصنع يدوياً من دون مراعاة لنسب التركيب الكيميائي السليم.
تجتاح تلك المواد السوق منذ سنوات بلا حسيب ولا رقيب. لكن، لو تمت مراقبتها ومنعها، لعجز الناس عن شراء “شامبو” قد يغدو ثمنه بقدر مرتب الموظف الحكومي شهرياً.
تتفق هولا والنقري، على سوء تلك المستحضرات التي تؤدي مع الوقت إلى إصابة مستخدمها بمشكلات جلدية تتطور فتعاند العلاج. ويقول النقري: “في الماضي، كان الجرب يتطلب استخدام غسولٍ للجسم لبضعة أيام، أما الآن فصار يتطلب علاجه أقراصاً دوائية فموية وإجراءات أخرى”.
منظومة متردية
لا مفر من الاعتراف بأن سوريا تعيش اليوم واقعاً صحياً متردياً، وقد بدأ في التقهقر منذ آذار/مارس 2011، إذ أخرجت الحرب عشرات المستشفيات من الخدمة الفعلية، ودمّرت مستشفيات وصيدليات ومختبرات كثيرة، والأخطر من هذا كله أنها تسببت بأوسع موجة هجرة طبية عرفها الإقليم عموماً، وسوريا خصوصاً، في السنوات الماضية.
لا يمكن تحميل أشخاص أو مؤسسات مسؤولية التردي في المنظومة الصحية في سوريا، فالحرب فرضت ظروفاً طارئةً على مناطق سيطرة الحكومة السورية المحاصرة بعقوبات غربية أفضت إلى فقدان الأدوية الرئيسية من الأسواق، في مقدمها أدوية أمراض السرطان التي صار تأمينها مرهقاً جداً ومكلفاً للغاية؛ وإلى انعدام إمكانيات النجاة من الأمراض الخطرة والسارية؛ وإلى تعطّل سويّة الابتكار والإنجاز والضلوع بالمهام التي تكتسب قوتها من اكتمال عناصرها التي جعلت من السودان – قبل الحرب فيها طبعاً – والصومال وليبيا وجهاتٍ مفضلة للأطباء والممرضين والفنيين السوريين، هذا غير الهجرة المستمرة إلى دول الخليج.
وإن كان الحديث هذه المرّة عن الطب الجلدي والتجميلي، فمن سوء قدر السوريين أن يكون هذا الاختصاص الأكثر طلباً للعمل في الخارج، لتقع المسؤولية العلاجية على من بقي في سوريا، متفانياً في العمل ليل نهار في ظل انهيار كامل للمنظومة الصحية. فهؤلاء يبقون جنوداً مجهولين في ساحة حرب شعواء، السلاح فيها دواء.