في الشارع السوري مشهدان: في الأول، يتدافع مواطنون للحصول على مكان في حافلات النقل الصغيرة “السرفيس”، وربما يصل الأمر إلى خوض معركة دامية للظفر بكرسي أو بمكان للجلوس بوضعية القرفصاء؛ وفي الثاني، تتراقص سيارات فارهة حديثة تنعكس على طلائها اللماع كل مآسي المشهد الأول.
لبعضهم، هذا الأمر مستفز. يعلق مواطن سوري على هذه الازدواجية “الاجتماعية” التي يشهدها يومياً، فيقول لـ “963+”: “عندما أرى هذه السيارات وأنا أجلس القرفصاء في السرفيس، بعد طول انتظار، تتسلل مشاعر الغضب إلى نفسي من الرجل أو المرأة خلف مقود تلك السيارة، خصوصاً حين أرى في مقعد الراكب ’كلب أبيض‘ثمنه ملايين الليرات”.
يقدّر يقول مصدر خاص في مديرية نقل دمشق، في تصريح لـ “963+”، عدد السيارات ذات المحركات الكبيرة (فوق 3000 سي سي) في سوريا بأكثر من 30 ألف سيارة، ثلثها من السيارات الفارهة “ذات الأسعار المليارية”، تنتشر في أغلبيتها في مدن دمشق وحلب واللاذقية. يقول المواطن السوري نفسه: “يمكن أن يصرف صاحبها في يوم واحد ما يكفيني وأسرتي طعاماً لشهر كامل”.
مصادرة أم استثناء؟
إن استيراد السيارات ممنوع في سوريا، إلا أن إلا أن ذلك لم يمنع من دخول السايارات الفارهة إلى البلاد، من دون وجود أي إحصاء رسمي أو رقم دقيق لعددها، بحسب المصدر نفسه الذي يقدر عدد السيارات “الفخمة” التي تدخل البلاد سنوياً بنحو 100 سيارة.
فكيف تأتي إلى سوريا؟
أحد أهم أساليب إدخال السيارة بطريقة قانونية هو مصادرتها حين تدخل تهريباً من دول الجوار، أو من المناطق خارج سيطرة الحكومة السورية، مثل شمال شرق سورية، ثم بيعها في مزادات علنية تعلن عنها المديرية العامة للجمارك أو المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، إضافة إلى حصول بعض المترفين على استثناءات أو مهمات لإدخال سيارات تحمل لوحات لبنانية.
لهذا السبب، تُباع هذه السيارات بأسعار يصفها معظم السوريين بأنها “فلكية”. ففي آخر مزاد أجرته المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، بيعت سيارة بمبلغ 6.5 مليارات ليرة سورية (ما يعادل 464 ألف دولار).
وثمة سيارات أخرى “من رتبة المليارات”، تتداولها فئة محدودة من السوريين، يسميهم الشارع السوري “تجار الحرب” الذين باتوا يحتكرون معظم الاقتصاد السوري، بينهم مهربون، ومتاجرون بالمشتقات النفطية والغاز والممنوعات، وتجار المواد الغذائية، وبينهم موظفون فاسدون في الجمارك والمالية والنفط.
لا يشتريها إلا المتنفذون
في منطقة الفيلات الغربية غربي دمشق، هناك معرض لا يعرض إلا سيارات فارهة، وله عملاء لا يتعاملون إلا بالدولار الأميركي، ولا يُشاهَدون إلا في أوتستراد المزة أو المالكي أو الجسر الأبيض، أو في المنتجعات ذات النجوم الخمسة على البحر.
يقول أحمد، وهو تاجر سيارات، إن أسعار السيارات في سوريا “مثلها مثل أسعار باقي السلع في السوق، تحكمها أمور عدة في مقدمتها سعر الصرف، وتوقف استيراد السيارات منذ بداية الحرب ساهم كثيراً في رفع أسعارها”.
يوضح أحمد لـ “963+” أن معظم السيارات الموجودة في السوق اليوم قديمة، تعود إلى عام 2010 فما دون، لكن الأسعار “نار”. يقول: “يتراوح سعر سيارة الشام موديل 2008 محلية الصنع يتراوح بحسب حالتها بين 110 ملايين و120 مليون ليرة، ويتراوح سعر سيارة سابا موديل 2008 بين 100 و120 مليون ليرة، أما سعر سيارة كيا ريو فيتراوح بين 220 و260 مليوناً”.
لكن، ماذا عن السيارات الفخمة، مثل مرسيدس وبي أم ف وأودي ورانج روفر وبورش وليكزس؟ بحسب أحمد، إن كانت من موديل عام 2010 تقريباً، فتتراوح أسعارها بين 500 مليون ومليار ليرة، “ولا قانون يحدد السعر إلا الاتفاق بين البائع والمشتري”.
ويضيف: “في السوق سيارات أميركية من نوع هامر وجي أم سي، وسيارات ألمانية من نوع مرسيدس أي أم جي، وسيارات لامبرغيني الإيطالية وأستون مارتن البريطانية، وتكون في مجملها بلا جمارك ولا قيود، يتم إحضارها من لبنان أو الأردن، ويقدّر سعر السيارة منها بنحو 200 إلى 400 ألف دولار”، وهذه برأيه لا يشتريها إلا المتنفذون، أما من يدفع ملياراً وأكثر في سيارة فهو من أصحاب الشركات الكبيرة، أو من أثرياء الحرب.
أوليغاريشية!
حين سأل موقع “963+” صاحب إحدى السيارات الفارهة من نوع “رانج روفر”، موديل 2022، عن كيفية تأمينه احتياجات سيارته من الوقود، ابتسم وقال: “هذه سيارة يزيد سعرها على 230 ألف دولار. اشتريتها لأقودها، ولن أبخل على نفسي بشراء الوقود من السوق السوداء أو ببطاقات ذوي الدخل المحدود الذين يبيعون مخصصاتهم بسعر أعلى من سعر الشراء، ولو كلفني الأمر 100 دولار يومياً”.
يرد الخبير الاقتصادي بشار الحسن الرأي أعلاه إلى “الانهيار الذي تشهده سوريا، فالحروب برأيه تؤدي إلى انهيار المنظومات الاجتماعية والاقتصادية في الدول، وتكون الطبقة الوسطى أول ضحية للنزاعات. يقول لـ “963+”: “في سوريا، وبعد حرب امتدت أكثر من 13 عاماً، رافقها حصار اقتصادي خانق، سُحقت الطبقة الوسطى، وولدت طبقة غنية ’أوليغارشية‘ لا تتجاوز اثنين في المئة من السوريين، وبقية الشعب فقراء معدمون لا يحققون دخلاً يكفي احتياجاتهم الأساسية، إضافة إلى بقايا من هم فوق خط الفقر الذين لا يمكن نسبتهم إلى الطبقة الوسطى”.
ويلفت الحسن إلى أن ظاهرة اقتناء السيارات الفارهة، التي يصل ثمن السيارة منها إلى مليارات الليرات “تساهم في تطور عقلية البذخ والمظاهر بشكل كبير في المجتمع، لذا تسود عقلية الاستهلاك بدلاً من الإنتاج، وعقلية التعالي بدلاً من دعم أبناء المجتمع”، وهذا بحسبه يمثل كارثة تنبئ بخطر يتهدد المجتمع وسلامته وتعايش أفراده وتعاضدهم.