خاص- منذر محمد/ الحسكة
منذ كانون الثاني/يناير الماضي، توقف برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عن تقديم المساعدات الغذائية في سوريا بسبب تراجع التمويل. وقع هذا القرار الأممي على مخيمات شمال سوريا وشرقها كالصاعقة، إذ زاد في معاناة ساكنيها الذين يعيشون أوضاعاً أقل ما يقال فيها إنها “كارثية”.
فالمخيمات نفسها تفتقر للمستلزمات الأساسية للحياة، وعوامل المناخ القاسية لا ترحم، ويضاف إليها الصراعات المستمرة بين الجماعات المسلحة.
مُهمشة وعشوائية
في شمال سوريا وشرقها 17 مخيماً نظامياً، أبرزها مخيما “الهول” و”روج” حيث تقطن عوائل عناصر تنظيم “داعش” المصنف جماعة “إرهابية” لدى الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ودول عربية وآسيوية أخرى، والعشرات من المخيمات العشوائية، بينها 53 مخيماً عشوائياً في الرقة وحدها، إضافة إلى عشرات المخيمات في دير الزور والطبقة ومنبج.
يقدر شيخموس أحمد، رئيس مكتب شؤون النازحين واللاجئين في “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، عدد العائلات في هذه المخيمات بنحو 70 ألف عائلة، “ويصل عدد السكان إلى 150 ألف نسمة في المخيمات النظامية وعشرات الآلاف في المخيمات العشوائية”.
ويضيف أحمد لـ “963+” أن هذه المخيمات موزعة كالآتي: 6 مخيمات في إقليم الجزيرة، ومخيم واحد في دير الزور، ومخيمان في الطبقة، ومخيم واحد في الرقة، ومخيمان في منبج، و5 مخيمات في ريف حلب.
يقول إبراهيم شيخو، الحقوقي والناشط في منظمة حقوق الإنسان في عفرين بمحافظة حلب: “يختلف واقع مخيمات الشهباء (على بعد 15 كيلومتراً من مدينة حلب) عن مثيلاتها في المناطق الأخرى، إذ هي منطقة منكوبة ومنفصلة جغرافياً عن مناطق ’الإدارة الذاتية‘، وتعاني أزماتٍ متعددة، ويبلغ عدد ساكنيها نحو 13 ألفاً هجروا قسراً من بيوتهم”.
كذلك، يقطن في الشهباء، نحو 150 ألفاً هجروا قسراً من عفرين في عام 2018، يتوزعون على مخيمات وقرى وبلدات منكوبة تفتقر للبنية التحتية الملائمة بسبب الحرب التي اندلعت بين القوات الحكومية وفصائل المعارضة المختلفة و”داعش”.
معاناة متفاقمة
المعاناة مستمرة في هذه المخيمات، صيفاً وشتاءً. ترد هبة زيادين، وهي باحثة أولى في “هيومن رايتس ووتش”، في حديث لـ”963+” هذه المعاناة إلى فقدان الرعاية والاهتمام، “من ناحية تأمين الغذاء ذو الجودة، والمياه النظيفة، والرعاية الصحية الملائمة، والتعليم”. وهذا يفرض تحديات كبيرة، يفصلها أحمد بقوله: “الإدارة الذاتية تعاني جراء عدم توفر المياه الصالحة للشرب، وندرة وقود التدفئة بعد استهداف القوات التركية المنشآت النفطية، والنقص الحاد في المستلزمات الطبية الضرورية من أجهزة وأدوية وسيارات إسعاف”، مؤكداً أن مأساة المهجرين في مخيمات الشهباء “هي الأشد، بسبب غياب المنظمات الإنسانية، المحلية والدولية”.
يقول شيخو: “في السابق، كانت هذه المخيمات تتلقى إمداداً ولو محدوداً بمياه الشفة من اليونيسيف، لكن هذا الإمداد انقطع اليوم لأسباب مجهولة، كما قلّت الخيم وعوازل الحرارة، وما نؤمنه بالإمكانيات الضئيلة المتوافرة لدينا لا يكفي”.
ويعلّق عز الدين صالح، المدير التنفيذي لرابطة “تآزر” بأن اليونيسيف لم تقطع المياه عن مخيمات الشهباء، “إنما توقفت عن تزويدها بالمياه، ما سيضاعف الأزمة الإنسانية، والمشكلة في مخيمات نازحي عفرين ورأس العين وتل أبيض تكمن في توقف المنظمات الدولية عن تقديم الخدمات الأساسية للنازحين”، مضيفاً: “تشكل مسألة عدم اعتراف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين باللاجئين في هذه المخيمات العامل الأهم في استمرار المعاناة في المخيمات، ولا سيما العشوائية منها، خصوصاً أن الأزمات تفاقمت بعد إغلاق معبر اليعربية الرئيسي الذي كان يمثل شريان حياة في شمال سوريا وشرقها منذ عام 2020، وبعد تكرر الغارات التركية على البنية التحتية المتهالكة أصلاً”.
توافقه زيادين في مسألة إقفال معبر اليعربية، مضيفة أن القيود التي تفرضها الحكومة السورية على المنظمات التابعة للأمم المتحدة في المنطقة تمنعها من التوجه إلى المخيمات، “وهذا يؤثر بشكل بالغ في الواقع الإنساني في المخيمات، ويجعلها منطقة شبه محاصرة”. وتضيف زيادين عوامل أخرى، في مقدمتها قلة التمويل من الدول المانحة، ونقص الموارد الكافية للمنظمات الدولية المستقلة غير الأمم المتحدة والعاملة في شمال سوريا وشرقها.
بؤرة اللشمانيا وذات الرئة
لكن، أخطر ما في الأمر في تلك المخيمات هو تفشي الأمراض، في غياب تام للبنية التحتية الخاصة بالمياه النظيفة، والنقص الكبير في الأدوية واللقاحات، كما يقول صالح. ويؤيده أحمد في اعتبار المخيمات بُقعاً مأزومة صحياً، “نظراً إلى تفشي الأمراض الجلدية والالتهابات المعوية إضافة إلى اللشمانيا، خصوصاً في المخيمات العشوائية، لقربها من مكبات النفايات”، كما يقول.
يصف حسن نبو، الرئيس المشترك للهلال الأحمر الكردي في عفرين (60 كم شمال حلب)، والشهباء، الوضع الصحي في هذه المخيمات بأنه “بالغ الخطورة”. يقول لـ “963+”: “الأمراض متفشية بين سكان المخيمات على أنواعها، سارية ومزمنة ووبائية، بينها الجدري واللشمانيا، إلى جانب أمراض الغدد والسكري وارتفاع الضغط الدموي، ناهيك بانتشار أنواع عدة من مرض السرطان بين كبار السن، ونقف عاجزين أمام هذا الواقع المزري، فالخدمات الصحية المتوافرة في النقاط الطبية التابعة للهلال الأحمر الكردي محدودة جداً، ولا من معين”.
ويؤكد نبو أن الحاجة ماسة إلى الأدوية اللازمة لعلاج أمراض السرطان، وإلى الحقن المضادة للشمانيا. ويقول بحسرة: “دعك من هذا كله.. نحتاج الآن وسريعاً كادراً طبياً متخصصاً في إدارة الأزمات الصحية والوبائية، وإلا سنواجه وضعاً كارثياً”.
معايير مزدوجة
على الرغم من هذه الأهوال، لا تعترف الأمم المتحدة إلا بخمسة مخيمات: المحمودلي في الطبقة، الهول وروج اللذان تقطنهما عائلات عناصر “داعش”، والعريشة والنوروز، بحسب أحمد، الذي يضيف: “هذا التمييز الأممي في الاعتراف بشرعية المخيمات يزيد الطين بلة، فكيف تدعم المنظمات الأممية مخيمين فيهما عائلات عناصر ’داعش‘، ولا تهتم بمساعدة مخيمات يقطن فيها نازحون من رأس العين وتل أبيض وعفرين؟ أليس هذا ازدواج واضح في المعايير؟
إلى ذلك، ساعد القصف التركي في عزوف منظمات كثيرة عن تقديم الخدمات داخل المخيمات، وهي خدمات محدودة وبسيطة جداً لا تلبي كافة الاحتياجات الأساسية لكونها منظمات مستقلة ولا تتلقى التمويل من الجهات المانحة الدولية، “فيما تقوم الإدارة الذاتية بتأمين الكهرباء والخبز والوقود للتدفئة بكميات قليلة جداً”، كما يقول شيخو.
كل التقديمات اليوم لا تجدي نفعاً، فالتقلبات المناخية شتاءً وصيفاً، بين برد قارس وحرّ قاسٍ، تزيد من تفشي الأمراض والأوبئة، خصوصاً مع جريان مياه الأمطار داخل الخيام وحولها شتاءً، وتفاقم مشكلة النفايات وأبخرتها صيفاً، كما ذكرنا آنفاً. حتى إذا توافرت المساعدات، يؤكد شيخو أن الإجراءات الأمنية التي تفرضها القوات الحكومية تضاعف المأساة. يقول: “فرضت الفرقة الرابعة التابعة للحكومة السورية شروطاً قاسية وجائرة على السيارات المُحملة بالمواد الغذائية وصهاريج الوقود وعلى دخول الأدوية، وتطلب مبالغ مالية طائلة للسماح بمرورها، وهذا بمثابة حصار ممنهج”.
وترى زيادين أن الحل السريع لهذه المآسي كلها يتمثل في زيادة الدول المانحة تمويلها للمنظمات الإنسانية العاملة في شمال سوريا وشرقها، “وتكثيف وجود وكالات الأمم المتحدة، وتوسيع نطاق خدماتها لتشمل المخيمات كلها من دون استثناء، إضافة إلى إقناع الحكومة السورية برفع القيود المفروضة على المناطق الخارجة عن سيطرتها، والسماح فوراً بمرور المساعدات”.
لكن، من أين؟ تعرف زيادين أن تحسين جودة الحياة في هذه المخيمات لن يتم في وقت قريب. تقول: “عمليات التمويل الدولية في سوريا ذاهبة نحو التقلص بسبب تزايد مساحات الأزمة والفوضى في العالم وما رافقها من تحديات للدول أدى إلى تراجع الاهتمام الدولي بالوضع السوري كما في السابق”.