تأخر إتقان السلطات اللبنانية “الطريقة التركية” في التعامل مع اللاجئين السوريين. فهؤلاء إن طال وجودهم في البلدان المضيفة، تحوّل هذا الوجود إلى فرصة استثمارية مربحة تستغلها الحكومات من أجل كسب المال عبر استغلال مآسي ملايين السوريين.
تقوم “الطريقة التركية” على التالي: تترك السلطات المحلية الحدود سائبة، وتخفف من منعها هجرة اللاجئين السوريين إلى أوروبا، فتعلو، على الأثر، أصوات الدول الأوروبية المنزعجة من وصول الآلاف إلى شواطيها، ثم تأتي بعروض مالية سخية للحكومات المحلية، فتكسب هذه الأخيرة، بالتالي، المال مقابل منع اللاجئين من الإبحار صوب أوروبا. وبطبيعة الحال، يمكن لأي دولة أن تنفذ هذه الطريقة غير المحصورة بدولة أو أخرى.
هكذا تعاملت تركيا مع الغرب منذ عام 2013. قالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرة بوضوح: “لا شيء بالمجّان، فحماية أوروبا مسؤولية أوروبا وليست مسؤوليتنا، وهي مهمة إن أردنا القيام بها ليست بخسة الثمن”.
على هذا المنوال، استفادت أنقرة من 6 مليار يورو عام 2020، و 7.6 مليار أخرى عام 2023، كما 7 مليارات ستأتي عام 2024 على شكل مساعدات وهبات “لتحسين ظروف تركيا” ومنع هجرة السوريين إلى أوروبا. يحتاج الاقتصاد التركي المتراجع إلى جرعات من الأموال الأجنبية، فيما “الصندوق الأوروبي” غالباً ما يُلبي طموحات أنقرة المحتاجة إلى كل فِلس للصمود في وجه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها.
“الطريقة التركية” أتقنها الجانب اللبناني متأخراً. فيما دول أخرى كالأردن والعراق تحوي ملايين اللاجئين السوريين لم تستطع أن تقوم بالمثل. هذه “نعمة” أن تكون، مثل تركيا ولبنان، تمتلك واجهة بحرية قريبة من شواطئ أوروبا، بينما لا تملك شيئاً من هذا القبيل كما هو حال الأردن والعراق.
منذ أشهر، خفف الجانب اللبناني من حضوره الأمني والعسكري على الحدود اللبنانية البحرية، وتحديداً في شمال البلاد، على سواحل مدينة طرابلس، المينا، القلمون، كما على شواطئ محافظة عكار في أقصى الشمال. ازدهرت، على الأثر، تجارة البشر وتهريب اللاجئين السوريين وحتى الفلسطينيين، فيما كانت وجهة معظمهم هي قبرص القريبة مسافة حوالي 10 ساعات بالبواخر الصغيرة المنطلقة من الشواطئ اللبنانية.
غرق بعضهم طبعاً، فيما اغتنى بعض البحّارة من التجارة بالبشر، ثم تصاعدت المواقف القبرصية المنزعجة من قدوم الآلاف إلى أراضيها. وعلى الرغم من أن السلطات القبرصية لا تفيد عن عدد اللاجئين الكلي القادم من لبنان، إلا أن كلام الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليدس، بداية شهر نيسان/إبريل، كان كافياً لمعرفة حجم الضرر على الجزيرة الصغيرة، بعدما قال أن مسألة اللجوء السوري قد أوصلت بلاده “إلى نقطة الانهيار”، داعياً المفوضية الأوروبية للتدخل وإيجاد حلّ.
في المقابل، ليس وضع لبنان أفضل من جاره القبرصي بكثير. فهو لا يمرّ بأزمة اقتصادية خانقة فحسب، بل يعاني أيضاً من تداعيات أزمة اللاجئين السوريين المتفاقمة والمقدّر عددهم من الجهات الرسمية اللبنانية بحوالي 2 مليون سوري، والتي تُثقل كاهله وتُهدد استقراره. فيما اتّخذت الحكومة اللبنانية مؤخراً من “الطريقة التركية” مسلكاً لها، وذلك لابتزاز الاتحاد الأوروبي ودوله لمساعدة لبنان.
نفع الابتزاز اللبناني، فهرعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى بيروت، في الثاني من الشهر الحالي، وأعلنت عن تقديم حزمة مالية بقيمة مليار يورو إلى لبنان لدعم اقتصاده المتعثر وقواته الأمنية.
وبهذا، نجح لبنان في انتزاع مساعدة مالية كبيرة من الاتحاد الأوروبي من خلال سياسة “غض الطرف” عن هجرة اللاجئين، دون أن يعني أن ما قام به الجانب اللبناني له أبعاد قيمية مهمة. فهذا الاستغلال الوقح للاجئين السوريين أثمر مساعدة مالية للجانب اللبناني وليس لجانب اللاجئين السوريين، وهي مساعدات ستتجه، على الأرجح، للتبخر في مزاريب الفساد اللبنانية التي أدت إلى أزمته الاقتصادية الحالية أصلاً.
التعامل مع اللاجئين كسلع مربحة مالياً طبقته السلطات اللبنانية بعد أكثر من عقد على اجتراح “الطريقة التركية”. يمكن تخيّل مدى الأرباح التي جنتها دول أخرى من هذه الطريقة، والتي قد تصل إلى عشرات مليارات الدولارات الأميركية من الجانب الأوروبي. هذا، طبعاً، من دون احتساب المساعدات القادمة من دول أخرى، ومن الأمم المتحدة ومنظماتها وأجهزتها الكثيرة.
من ناحية أخرى، تُساهم هذه السياسة في تعزيز النظرة السلبية للاجئين في أوروبا، وتُصوّرهم كعبء على الدول الأوروبية بدلاً من كونهم ضحايا حرب وحشية. وعلاوة على ذلك، تُغذي هذه السياسة تجارة البشر، حيث يُصبح اللاجئون سلعة تُستخدم لتحقيق الربح، فيما تقرر السلطات المحلية متى تسمح لهم في الإبحار ومتى تمنع ذلك، لا خوفاً على حياتهم من الغرق، إنما من أجل كسب أكبر قدر من المال الأوروبي.
وفي خضم هذه الأزمة، يقع اللاجئون ضحية لعبة سياسية بين لبنان والغرب. فبينما تُسعى الدول الأوروبية إلى التخفيف من عبء اللاجئين، تسعى الحكومات المضيفة إلى استغلال معاناتهم للحصول على المساعدات المالية. وبين هذه التجاذبات، تُهمل حقوق الإنسان وكرامة اللاجئين، وتُصبح مآسيهم مادة للتجارة المربحة.
إنّ أزمة اللاجئين السوريين في لبنان هي أزمة إنسانية معقدة تتطلب حلولاً شاملة تُراعي حقوق جميع الأطراف المعنية. ولن تُفلح سياسة الابتزاز في معالجة هذه الأزمة، بل ستُفاقم من معاناة اللاجئين وتُهدد الاستقرار في المنطقة. ولذا، يجب على المجتمع الدولي العمل معاً لإيجاد حلول دائمة تُمكّن اللاجئين من العودة إلى بلادهم بأمان وكرامة، خاصة وأن المليار يورو لن تحلّ أي أزمة حقيقة، كما لن تبقى طويلاً في لبنان من دون أن تتبخر في شبكة فساده المزمنة.
وبعد اختفاء هذه الأموال، ربما يعاود لبنان تخفيف إجراءاته الأمنية على شواطئه، لتعود وتتحرك المراكب المتاجِرة بالبشر، وذلك إلى حين عقد صفقة جديدة بين لبنان وأوروبا، حيث تضمن هذه الأخيرة بقاء اللاجئين في الشرق، ويضمن لبنان بعض الأرباح المادية تفيد في استمرار حكامه في مناصبهم.