“لامني زوجي بقسوة، ومع كل كلمة منه كُنت أشعر أكثر بغبائي، لأنني فرّطت بمبلغ من المال المُدخر في هذه الأزمة المالية والمعيشية الخانقة. لكن نيتي كانت المساعدة وزيادة دخلنا العائلي لا أكثر”. هكذا بدأت شيريهان حاجي (33 عاماً) تروي لـ “963+” قصتها المأساوية مع التسويق الشبكي الذي أرادته مُعيناً لها في حياتها، فحلّ وبالاً عليها.
يتم التسويق الشبكي هذا من خلال سلسلة من الأفراد يترابطون تراتبياً، فيكون الفرد الجديد في السلسلة تابعاً لفرد ضمّه إلى الفريق. تقول حاجي: “أقنعتني زميلة مُدرِّسة بالعمل مع فريقها للترويج لسلع ومنتجات مختلفة، وقالت لي إنها تجني أرباحاً جيدة”. فكل شخص يؤسس فريقاً ويضم إليه أعضاءً جدداً، مهمتهم الترويج والبيع في مقابل عمولة مالية. وتضيف: “قالت لي إن لها نسبة من أرباح كل ما أبيعه، وحين تضمين أفراداً إلى المجموعة، تحصلين على نسبة من أرباح مبيعاتهم، وهكذا”.
استسهلت حاجي الأمر في البداية، من منطلق “إني مو خسرانة شي، لكنني فوجئت بعد انضمامي إلى المجموعة بضرورة دفعي مبلغ 500 دولار لأحصل على مواد للتجميل وعلى عطور نسائية، بحجة أن سعرها أعلى كثيراً، وأنني سأستعيد هذا المبلغ زائداً الأرباح”.
لكن جرت الرياح بما لم تشتهِ سفن حاجي. تقول متحسرة: “أيّ أرباح وأيُ تطوير؟”. دفعت 500 دولار، وحصلت على بعض مواد التجميل التي لم تتمكن من بيعها. تضيف: “لم أنجح في إقناع أحد بالانضمام إلى الفريق فخسرت رأس المال الذي جمعه زوجي من عمله محاسباً في سوق الهال بدمشق، فيما استفادت زميلتي، ولم أنل إلا لكمات زوجي المتحسّر على ضياع ماله، الذي جمعه بعرق الجبين سنةً كاملة”.
منذ الكساد الكبير
ظهر التسويق الشبكي في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، في خلال الأزمة المالية التي سميت حينها “الكساد الكبير” بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. في منتصف الأربعينيات، تنبهت شركة “كاليفورنيا فيتامينس” إلى أن أغلبية زبائنها من أقارب موظفيها وأصدقائهم، فاكتشفت أهمية وجود عدد أكبر من المروجين يستهدفون أعداداً صغيرة من الناس، بدلاً من مروجين قليلين يستهدفون أعداداً كبيرة من العملاء، فقررت تشجيع مروجيها بالترويج لمنتجاتها من خلال دعوة المروجين الجدد لمنتوجات الشركة من أقاربهم وأصدقائهم، في مقابل مكافآت على شكل عمولات.
في عام 1959، أنشأ مسوقان في الشركة نفسها، وكانت قد غيرت اسمها إلى “ناتشورالايف”، هما ريتش ديفوس وجاي فان أنديل، شركة خاصة بهما تعتمد كلياً على التسويق الشبكي، فكانت الأولى في هذا الإطار.
في عام 1974، سنّ المشرعون الأميركيون قانوناً يمنع الشركات الهرمية، بعد موجة من الدعاوى القضائية رفعت ضد شركات كثيرة تتبع نظام التسويق الشبكي، إثر اتهامها بالاحتيال.
ضحية الصوت العذب
اليوم، يمكن لأي متابع لمختلف وسائط التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة لينكدإن، أن يُشاهد حجم الترويج الإعلاني لمختلف أنواع التدريب على التسويق الشبكي. يقول ماجد يوسف (29 عاماً) من أهالي ناحية تربسبي (القحطانية) بريف القامشلي على الحدود السورية التركية، وهو موظف في إحدى شركات الترويج الإلكتروني: “رواتبنا قليلة، وأبحث كثيراً عن عمل عبر الإنترنت. شد انتباهي إعلان عن وظائف برواتب خيالية وعمل فيها من المنزل، فتابعت رابط الخبر، ودونت بريدي الإلكتروني ورقمي الهاتفي. بعد أيام، تلقيت اتصالاً من دبي. حدثتني سيدة بصوتٍ عذبٍ، وسألتني عن أدق تفاصيل عملي، فتأثرت بحديثها”.
لا يُنكر يوسف تسرعه وطمعه في ربح سريع، خصوصاً حين تكررت اتصالات تلك السيدة التي كررت إعجابها بسيرته الذاتية ومؤهلاته وقدراته. رضخ لنصيحتها وتابع مراحل التسجيل لندوة خاصة بالتسويق الشبكي. حضر موقع “963+” تلك الندوة فكانت قصيرة وسريعة في طرحها وشرحها. كان مثيراً إخفاء عدد الحاضرين، ومنعهم من تقديم أيّ مداخلة، وحصر الكلام بشخص عرّف نفسه بأنه “بطل التسويق الشبكي” الذي خضع لدورات كثيرة في ماليزيا وإندونيسيا.
عرض هذا “البطل” صوراً فوتوغرافية من ملاعب الدولتين وحدائقهما، ثم زعم أنه يحقق ربحاً وقدره 2300 دولار أسبوعياً. في نهاية البث المباشر عبر قناة في منصة “يوتيوب” طلب المُتحدث “البطل” من المشاركين في الندوة الإصغاء لمن سماها “مديرة العلاقات العامة” والتجاوب مع الترتيبات الجديدة التي ستعرضها.
في اليوم التالي، تلقى يوسف الذي حضر الندوة اتصالاً من رقم أجنبي، وقالت المتصلة: “عزيزي مبروك، تم قبولك في الدورة المكثفة نظراً إلى مهاراتك الفائقة، وعليك تحويل مبلغ 35 دولاراً لحساب المؤسسة لحجز مقعد في الدورة”.
يقول يوسف، الذي يصف نفسه بالضحية: “سجلت بالدورة وأرسلت المبلغ المطلوب من طريق صديق ليّ مقيم في أوروبا، ولم أصغ لتحذيراته. للأسف، كانت دورة مملة من دون أي فائدة. بعدها، بدأت رحلتي مع الاحتيال. طلبت مني تلك السيدة بصوتها العذب إرسال 2500 دولار للحصول على منتجات من علامات تجارية عالمية، لأبيعها فأحصل على أرباح عالية”. يضحك يوسف: “الحمد الله. ما كنت أملك ذلك المبلغ وإلا لوقعت في الفخ، واقتصرت خسارتي على 35 دولاراً”.
مهارات إقناعية – احتيالية
احتيال التسويق الشبكي ليس محصوراً في منطقة سورية واحدة، فضحاياه من الشباب في كل سوريا، يحلمون بعمل يوفر لهم مورداً إضافياً يعينهم في أسوء محنة مالية واقتصادية عرفوها. فريد يوسف (19 عاماً) طالب في كلية الآداب بجامعة دمشق، وقع ضحية هذا الاحتيال إذ ظن أنه سيُعين أهله بتحصيله مصروفه الجامعي. يروي يوسف لــ”963+” عبر الهاتف: “تعرفت على مجموعة من الطالبات في الكلية أقنعنني بالانضمام إلى مجموعتهم التسويقية للمواد الغذائية، فرحت كثيراً بأرقام الأرباح التي زعمن أنني سأحصل عليها. دفعت لهن 150 ألف ليرة سورية، أي نحو ثلاث أرباع مصروفي الجامعي، لأحصل على عدد من علب المرتديلا. بعد نحو شهرين، نجحت ببيع أغلبها لأكتشف لاحقاً أن صلاحية استهلاكها توشك على الانتهاء، فامتنع الجميع عن شرائها مني، وهكذا خسرت المال والبضاعة، وحضور المحاضرات”.
يصف الناشط الشبابي إيفان أبو زيد (39 عاماً) من أهالي مدينة القامشلي ومدير مكتب سكاي للخدمات الطلابية، هذه العملية بالكارثية، ويقول لـ “963+”: “على كل شخص توظيف شخصين، وعلى كل شخص منهما توظيف شخصين آخرين.. وهكذا، وعلى الجميع شراء قطعة أو مُنتج لا يتجاوز ثمنه دولارات قليلة، ليبيعه بأسعار خيالية لمنتسبين جدد، فيبيعونه بدورهم”.
ترد الإعلامية رنيم خلوف، انتشار التسويق الشبكي في سوريا، منذ عام 2007، إلى الحاجة والبحث عن مصادر تمويل بديلة. تقول لـ “963+”: “للأسف، أثبتت وقائع كثيرة أن هذا التسويق يدخل في باب الاحتيال، وسبق الحديث على مشروع ’شجرتي‘ للتسويق الهرمي، وتم إيقافه”.
وكان مشروع “شجرتي” قد انطلق في دمشق في عام 2017، مُركّزاً نشاطه على منصات التواصل الاجتماعي، وطارحاً مبادرات لتشجير الشوارع العامة وزرع الأشجار المثمرة في العاصمة السورية، أطلقها صاحب المشروع زاهر زنبركجي.
تطوّع للعمل مع زنبركجي نحو 150 جامعياً، خصوصاً بعدما تحدّث عبر مواقع التواصل الاجتماعي معلناً “احتضانه أولاد شهداء قوات الحكومة السورية وجرحاها عبر تقديم عروض لهم”. بعد ذلك، تمكن زنبركجي من إقناع كثيرين بإيداع أموالهم لديه، وأصدر لهم بطاقات مزيفة مدعياً أنها تخولهم الحصول على أرباح طائلة، وقد وقعوا في فخ تاريخ استحقاق الربح الذي حدده بعد أربعة أشهر من تاريخ الإيداع. كان نشاط “شجرتي” قائماً على الهرمية، إذ يعطي المودعين القدامى من أموال يودعها المودعون الجدد وهكذا.
قصص نجاح أخرى
لم يحتل أحد على ختام عبدالله من أهالي بلدة تل حميس. تقول: “أمتاز بأسلوب فريد في الإقناع، لذا أحصل على المنتجات من الشركة عبر الشحن الدولي، وسجلت كذلك في التسويق الهرمي وأنا عضو فاعل في مجموعتي، أبيع البضاعة بأثمان عالية، فالمسألة تتطلب مهارات عالية في التسويق ولباقة عالية في الكلام”. وتتباهي عبدالله بأنها باعت مرة ثياباً داخلية نسائية لشاب مراهق بثلاث أضعاف ثمنها، “لأنني عرفت كيف أكلمه وأقنعه”.
وتعبّر سُهاد القباقبجي (40 عاماً) عن تعلقها بالتسويق الشبكي، قائلةً: “أنا أربح كثيراً، لكنني لا أنتمي إلى مجموعات، ولا أشتري منتجات من أيّ شركة”. فما سر هذه الفتاة التي تخرجت من قسم الفلسفة بجامعة حلب؟ تشرح: “يُرسل إليّ شقيقي الكثير من الكريمات وأنواع معجون الأسنان وفراشي الأسنان التي لا يزيد سعرها عن سنتات قليلة، وتُباع في سوريا بخمس أضعاف ثمنها، ما يؤمن لي ربحاً وفيراً، وإن خسرت، فالخسارة قليلة”.
أعمال منزلية
في الآونة الأخيرة، ظهر العديد من الصفحات الخاصة في وسائط التواصل الاجتماعي، وخصوصاً إنستغرام، تعرض منتجات مصنوعة منزلياً من وجبات طعام وحلويات وهدايا وشموع معطرة. تقول سيرين مادو (32 عاماً)، من أهالي مدينة عامودا بريف القامشلي، والحاصلة على شهادة في الاقتصاد المنزلي، وهو أحد تخصصات ثانوية الفنون النسوية، لــ “963+”: “نحن ثلاث أخوات نشتغل في كافة أنواع الأعمال اليدوية، من تطريز وشك خرز وحياكة صوف وسجاد، ونصنع الأثواب المزركشة وقطع الإيبوكسي والمكرميات”.
وتضيف مادو التي تصف نفسها بقاهرة العراقيل: “نواجه مشكلات عدة، مثل صعوبة توفير المواد، فالجودة والتنوع في الألوان لا يتوفران دائماً، فنطلبها من أسواق دمشق وإسطنبول وبغداد وأربيل، وهذا يزيد من تكلفة البضاعة ويؤخر وصول المواد الخام 15 يوماً أحياناً، وهذا يسبب مشكلات حين ترتبط الطلبات بمواسم وأعياد معينة، مثل شهر رمضان أو عيد النوروز أو عيد الأكيتو”.
في أي حال، لا تخفي مادو سعادتها بعملها. تقول: “أنتج وأسوق أعمالي، وأتواصل مع عملائي مباشرة، وهذا أفضل من طرق التسويق الأخرى”.
سالي دعبول (35 عاماً) المقيمة في القامشلي، مدرسة حاصلة على إجازة في الرياضيات، وناشطة في المجال الإنساني، تمارس الترويج عبر الإنترنت. تقول لــ “963+”: “في فريقنا سيدات كثيرات، وكل سيدة تعمل من مطبخ منزلها، زوج إحداهن مريض لا يعمل، وأخرى تمر بوضع مادي صعب جداً، وثالثة ميسورة قليلاً لكنها تعشق العمل وترغب بالمساعدة… وهكذا. فتم تقسيم العمل بين صناعة الحلويات والمأكولات، وتوضيب الوجبات، وتحضير الطلبيات الكبيرة والصغيرة، أما أنا فأروج ما ينتجن وأبيعه”.
وعانت سالي في البداية من تحفظ أهلها، لكنها تلقت التشجيع من زوجها ومن إحدى شقيقاتها، “لكن حين شاهد الجميع نجاحي، والمردود المالي الذي أحققه، تغيرت النظرة إلى عملي”، كما تقول، مضيفة: “أظن أن التسويق الشبكي المباشر لمنتج مضمون ومع جهة معروفة فكرة جيدة ومجدية”.
عقوبات صارمة
تقول خلوف: “إن التسويق الشبكي والهرمي يهدم الأسر، خصوصاً أن مجال التسويق يفتقر للقوننة وإثبات الحقوق”.
ويعلق محام سوري رفض الكشف عن اسمه بسبب حساسية القضايا المتعلقة بمثل هذا النوع من التجارة الرقمية قائلاً: “الحرب وتعدد مراكز القرار ضمن سوريا صعّب مهمة تحصيل الحقوق، خصوصاً إذا كانت الشركة الأم خارج البلاد”.
ويضيف: “تفتقد شبكات التسويق الهرمي لأيّ ضوابط أو أدلة ضدها، فلا أحد يُجبر الآخر على العمل، ولا عقود ولا شروط جزائية”.
إلى ذلك، صدر القانون رقم 20 للعام 2022 القاضي بإعادة تنظيم القواعد القانونية الجزائية للجريمة المعلوماتية التي تضمنها المرسوم التشريعي رقم 17 للعام 2012، والقاضية بعقوبة السجن من 3 إلى 5 سنوات، مع غرامة مالية تتراوح بين 3 و5 ملايين ليرة سورية ضد كل من أساء استخدام الإنترنت وتقنيات المعلومات للحصول على معلومات أو مال بغير وجه حق.