بعد الثورة والحرب السورية، أطلقت المعارضة مبادرات سياسية كثيرة، تجمعُ معظمَها نقاطٌ أساسية، كالتأكيد على وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها، ووحدة الشعب السوري، والسعي للخلاص من الاستبداد بالانتقال السياسي، استناداً إلى بيان جنيف1 لعام 2012، وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. وتدعو لإخراج القوات والمليشيات الأجنبية من البلاد، وإن اختلف تعريفها وتصنيفها بين مبادرة وأخرى، باختلاف أهداف مطلقيها وخلفياتهم الأيديولوجية، ما انعكس أيضاً في المضمون، بذكر مصطلحات معيّنة أو تجنّبها.
لم تسفر المبادرات عن شيء، ومع ذلك لم يتوقّف صدورها. آخرها “وثيقة المبادئ الخمسة”، التي اختار القائمون عليها من “السوريات والسوريين، من كافة شرائح المجتمع السوري، في الداخل والخارج”، إطلاقها يوم17 نيسان/ أبريل 2024، في ذكرى استقلال سوريا. ذيّلَت الوثيقة بأسماء عشرات الهيئات والشخصيات السياسية والمجتمعية، ومما جاء فيها “أحقية التظاهر السلمي” في السويداء ضد سلطة النظام، أو ضد قوى الأمر الواقع العنصرية والمتطرفة، وفي أي منطقة سورية، والتأكيد على “وحدة التراب والهوية الوطنية ورفض المشاريع الانفصالية”، وتفعيل الحل السياسي بمرجعية القرارات الدولية، والدخول في مرحلة انتقالية تقودها حكومة وطنية تهيئ البيئة الآمنة لاستعادة السوريين قرارهم الوطني وعودة المهجرين منهم، والوصول لدولة الحق والقانون والمواطنة لكل السوريين، والإفراج الفوري عن المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين قسرياً وإلغاء جميع الأحكام التعسفية التي طالت كافة شرائح المجتمع السوري، ومحاسبة كل من تلطخت أيديهم في دماء وحياة السوريين وتحقيق العدالة الانتقالية، وخروج كافة القوات الأجنبية والمليشيات الطائفية والمتطرفة.
كان من الموقعين على الوثيقة الشيخ أحمد الصياصنة، خطيب الجامع العمري بدرعا سابقاً، وأحد وجوه الثورة السورية المعروفة. لكنّه عاد وسحب توقيعه، بسبب تعديل قال إنّه طرأ على الوثيقة بعد التوقيع، ويقصد إدراج عبارتي دولة علمانية والمساواة الجندرية في مقدمتها. لكنّ الصياصنة أكّد استمرار دعمه “وثيقة المناطق الثلاث”، الصادرة بتاريخ 8 آذار/ مارس المنصرم، والتي أراد أصحابها استذكار إعلان استقلال سوريا الأول (8 آذار 1920).
تميّزت مبادرة “المناطق الثلاث” بإعلانها المتزامن في ريف حلب الشمالي، ودرعا البلد، وبلدة القريّا في محافظة السويداء. انضمّت إليها منطقة الساحل بعد شهر، وفق “إعلان من الساحل السوري”، جاء فيه نبأ تشكيل “تجمّع العمل الوطني في الساحل السوري، ليكون رافداً سورياً وطنياً يعمل مع أبناء الوطن كافة لتحقيق الحرية والانتقال السياسي، ويضم التجمع طيفاً واسعاً من السوريين والسوريات الذين ينتمون إلى منطقة الساحل السوري في داخل سورية وخارجها، والذين عملوا سوية قبل هذا الإعلان لفترة طويلة وبحثوا في كيفية المساهمة في بناء الثقة وتعزيز منهجيات العمل الديموقراطي الوطني”، وأعلن التجمع “انضمام الساحل السوري إلى وثيقة المناطق الثلاث”.
تضمّنت المبادرة خمسة مبادئ أيضاً، الأول “تأميم السياسة” كونها “شأنٌ عموميٌ سوريٌ، لايخص فئة دون أخرى”، ورفض تسليم “القرار العمومي السوري لأي قوة أجنبية، أو دولة أخرى، أو مليشيا، أو جماعات حزبية، أو عصبية”، لأنه مصادرة لقرار السوريين “ويجب أن يتوقف؛ سواء صدر من الطغمة المجرمة التي تحكم دمشق، أو من أي طرف آخر”، وأساس وحدة الشعب السوري وأساس حل مشكلاته سيادة السوريين في وطنهم. والمبدأ الثاني “الحياة، والحرية، والأمان، والكرامة حقوق وطنية”، والصراع في سوريا هو “بين الحرية والكرامة من جهة، والقهر والإذلال من جهة أخرى: بين ذهنية تواقة إلى الحياة والحرية يمثلها الشعب، وأخرى لاتفهم إلا القتل والتعذيب، وسلب الحد الأدنى من الحقوق، يمثّلها النظام الحاكم”، ونصّ على مناهضة كل فعل أو خطاب يدعو إلى الكراهية. وأكّد المبدأ الثالث على “وحدة سورية”، وأنّ “الدولة الوطنية لجميع أبنائها، وليست دولة ملّةٍ، أو طائفةٍ، أو جماعة عرقيةٍ، أو حزبٍ، أو تيارٍ سياسي: إنها دولةٌ سوريةٌ فحسب”، والسعي إلى تقسيمها عمل غير مشروع، ويجب مناهضته. والمبدأ الرابع “التنسيق، والحوار، والعمل المشترك”، وقد استحضر “التنسيقية” بوصفها أول تشكيلات الثورة، وشكّلت “فرصة لتوليد السياسة، والتعبير عن حقيقتنا الوطنية”، داعياً السوريين “إلى العودة إلى مبدأ التنسيق مرة أخرى، وبناء شبكات ثقة بينهم، عابرة للمناطق، والطوائف، والعصبيات، من أجل الإمساك بزمام أمورهم انطلاقاً من سلوك ديمقراطي حر”، فالسبيل إلى استعادة الوطن هو تعاون السوريين وعملهم المشترك. والمبدأ الخامس “بناء الثقة”، فهي “أداةُ تأسيسٍ سياسية تؤطّر اجتماعنا الوطني، وتعيد بناء رأس مالٍ اجتماعي وطني، يمهّد الطريق لـ(الوحدة في الكثرة)، واحترام التعددية وترسيخها قناعةً وعملاً، ويمهّد الانتقال إلى الديموقراطية”. وتُختَتم الوثيقة بتأكيد “أبناء هذه المناطق الثلاث”، العمل معاً انطلاقاً من المبادئ السابقة، “طامحين إلى خلق روح جديدة في التفكير… وفتح حوار سوري عمومي عابر للمحليات، والعصبيات كلها”، داعين السوريين إلى المساهمة والانضمام إلى المبادرة. وبتبنّي نشطاء من الجولان لها، تصبح المناطق التي أعلنت انضمامها إلى المبادرة خمساً، حتى تاريخ كتابة المقال.
من جهته، أصدر مجلس سوريا الديموقراطية بياناً في 23 نيسان/أبريل، أعرب فيه عن اهتمامه بالإعلان المشترك عن وثيقة المناطق الثلاث، وترحيبه “بجميع المبادرات الوطنية التي من شأنها توحيد الجهود السورية للوصول إلى مشتركات وتوافقات في الرؤى والأهداف التي تؤدي إلى وحدة العمل بين القوى السياسية والتوصّل إلى الحل السياسي المنشود والذي يتطلع إليه الشعب السوري في العيش بكرامة وحرية وتحقيق الانتقال الديموقراطي”، لكن من دون ذكر الانضمام لها. وفي اتصال هاتفي مع السيد علي رحمون، من مجلس سوريا الديموقراطية، أكّد للكاتب أنّهم في المجلس لم ينضموا للمبادرة، رغم موقفهم الإيجابي والداعم لها، “إذ لايكفي إطلاق أفكار ورؤى عامة باسم مناطق جغرافية، وإنما يجب معرفة من وراءها من قوى سياسية للتواصل والحوار معها”.
بعد عرض أبرز ما تضمّنته المبادرتان الأخيرتان (وهما لاتخلوان من تكرار بعض ما جاءت به وثائق سابقة)، لابدّ من الإشادة بتمسّك السوريين، أو بعضهم، بالتفكير الإيجابي وروح المبادرة، رغم الحالة الكارثية للبلد، سعياً إلى استعادة قرارهم الحر الذي بات مستلباً وموزّعاً بين سلطة نظام الأسد وسلطات الأمر الواقع الأخرى، ومن ورائها الدول ذات النفوذ العسكري المباشر في سوريا. وهذا لايمنع طرحَ تساؤلات موضوعية، لاتقلّل من جهود أصحاب المبادرات أو تشكّك في نواياهم.
ما الجدوى العملية للوثائق والمبادرات والمبادئ النبيلة، مادام الاهتمام الدولي بالملف السوري في أدنى مستوياته، مع الأزمات اللاهبة التي تعصف بالمنطقة؟ وهل لأولئك المبادرين وزن وتأثير حقيقي في الشارع، ما دامت مبادراتهم لم تُعرَف أو تحظى باهتمام شعبي في مناطق يتحدّثون باسمها؟ والأهمّ، ما الذي سيدفع القوى المسيطرة، من دول ومليشيات، إلى تغيير الوضع الراهن، طالما أنها متوافقة ضمنياً على القسمة الحالية، وتجد سبلاً للتعايش والتوفيق بين مصالحها؟
إنّ الحراك الشعبي السلمي المنظم، العابر للمناطق والطوائف، هو ما خلخل أركان النظام وأفقده التوازن في بدايات الثورة السورية، قبل أن تتفاعل عوامل العسكرة والأسلمة والتدخلات الدولية، لتعيد ترتيب المشهد في غير صالح الثورة. وبالأسلوب نفسه، استطاعت محافظة السويداء التحرر من قبضة النظام حتى اللحظة. ولايبدو أنّ أي مبادرة ستنال حظاً من النجاح ما لم يواكبها حراك شعبي شامل، يغيّر عناصر المشهد السياسي، ويفرض شروطاً جديدة تفرز واقعاً مختلقاً. فهل هذا ممكن؟