قبل أن يتحوّل السوريون إلى ضحايا متنقلين بين دول العالم وحدودها المغلقة، كانت بلادهم ملجأ لكل مضطهد في الشرق. خذ السريان الذين يسكنون في شمال البلاد بشكل خاص، على سبيل المثال. هؤلاء، وإن كانوا يشكّلون أقلية تجاهد للبقاء اليوم، إلا أنهم أبناء المذبحة التاريخية التي تعرّضوا لها المعروفة باسم “سيفو”، في إشارة إلى المذابح الكثيفة التي عاشوا ويلاتها على يد السلطنة العثمانية منذ عام 1914 والأعوام التي تلتها.
يتذكر هؤلاء والأشوريين والكلدان في كل 24 نيسان/أبريل من كل عام وقائع تلك المذبحة، وقصص الموت والدم التي يتناقلوها من جيل إلى آخر. وللتاريخ هذا بالتحديد، معنىً مماثلاً لأقلية أخرى تسكن في سوريا، وهم الأرمن الذين يتذكرون في التاريخ نفسه الإبادة التي راح ضحيتها أكثر من مليون أرمني في زمن السلطنة العثمانية وهجرتهم الجماعية حفاة شبه عراة إلى سوريا ولبنان ودول العالم، بحسب مجمل المراكز البحثية الأرمنية المعنية في هذا الشأن.
على المنوال نفسه، ليس الكُرد والعلويون والدروز والشيعة واليزيديين السوريون وغيرهم إلا ضحايا كذلك. البعض لجأ إلى سوريا للاحتماء من سيوف السلطنات وظلمها، والبعض الآخر لم يجد إلا تلك البقعة الجغرافية للاحتماء من ظلم التاريخ وأحداثه. وإن كان لكل جماعة عرقية أو إثنية أو دينية تاريخ خاص من الاضطهاد وسرديات مميّزة حول تضحياتهم، إلا أن الجميع لقي في سوريا واحة للازدهار واللجوء في فترة من الزمن، وملجأ للحفاظ على الوجود في هذا الشرق الدموي المنتج للضحايا عبر التاريخ القديم منه والحديث.
لم تكن سوريا، على جميع الأحوال، البقعة الجغرافية الوحيدة التي أوت كل الأقليات وحمتها في الماضي. تتشارك في ذلك مع جاريها لبنان وفلسطين اللتان تضمان أقليات دينية وطائفية متنوّعة هربت من ظلم ممالك وسلطنات الشرق والديكتاتوريات المختلفة. إلا أن سوريا تبقى منزلاً كبيراً يضم كل ضحايا التاريخ ذات التنوّع الغني والأعداد الوفيرة، وليس فيها جماعة إلا وتحمّل رواية تظلّمها التاريخي من نظام مستبد من هنا أو حكام ظالم من هناك. وذلك كله قبل حتى أن يبدأ السوريون أنفسهم في ظلم بعضهم البعض منذ العام 2011 وما تلاه من أحداث دموية زادت على مظالم الجماعات مظالم أخرى أكثر فتكاً وشدّة.
الناظر إلى تاريخ جماعات سوريا، يعرف أنه عبارة عن مجلد كبير من الظلم والدماء، ولكل واحدة من هذه الجماعات فصل في هذا المجلد. أما مضمونه، فعبارة عن سرد لأحداث التاريخ، إحصائيات عن أرقام الضحايا، ولوم شديد للآخر. ولكن من النادر، في هذا الشرق، أن تقوم جماعة بمراجعة نقدية لنفسها، أو أن تلوم تصرفاتها وأعمالها التي أودت بها للتهلكة. وإن كان من المؤكد أن النقد الذاتي الذي قد يقدمه الضحايا لأنفسهم لا يعفي المسبب من مسؤوليته، لا ينفي ذلك حاجة الجماعات في سوريا وجيرانها من مسؤولية المراجعة الذاتية عن أعمالهم، بغية التعلّم من أخطاء الماضي.
قد تكون بعض الأخطاء هي الاتكال على الغرب، أو الركوب العفوي بموجة ثورية، أو التنظيم الداخلي المركزي للجماعة نفسها، وغيرها من الأخطاء التي سبّبت الظلم التاريخي. إلا أن السلطنات والممالك والجمهوريات ذات الأفكار الوحدوية والسطوة العسكرية والعقائد الإيديولوجية المغلقة تبقى المسبّب الأساسي لكل ما جرى لتلك الجماعات، أكانت أقليات أم أكثريات.
هذه المراجعة النقدية يجب أن تشمل أيضاً تحليلاً عميقاً للسياسات القديمة والحالية التي أدت إلى التمييز والظلم ضد الأقليات في سوريا والمنطقة بشكل عام. من الضروري تقديم إصلاحات داخل الجماعة ذاتها، كما إصلاحات جذرية أخرى مرتبطة بالضمانات القانونية وحقوق الإنسان التي تحمي جميع المواطنين بغض النظر عن العرق أو الديانة أو الانتماء السياسي.
وإن كانت سوريا في الماضي منزلاً كبيراً وواسعاً لضحايا التاريخ، إلا أنها باتت اليوم منزلاً يضيّق بسكانه رويداً رويداً. ما معنى أن يهجر حوالي نصف الشعب السوري أرضه، سوى أن البيت ما عاد يتسع للكل. أو أن ترى السوريون منتشرون في أقصى بلاد الدنيا ويعبرون من دولة إلى أخرى ليصلوا إلى أبعد نقطة عن بلدهم الأم، سوى أن سوريا ما عادت تتسع للجميع.
المنزل السوري المهدّم والضيّق ما عاد ملجأً لأحد، إلا لهؤلاء الذين استغلوا الحرب لمكاسب شخصية. بات المنزل مصدّراً لكل أهله، ينثرهم أفراداً وجماعات في بلاد الدنيا الواسعة. وفيما تذكر بعض الأخبار الصحفية المنتشرة عن وصول بعض اللاجئين السوريين إلى أستراليا والأرجنتين وإيرلندا وألسكا هذه الأيام، يخال للمرء لو كان القطب الشمالي قابلاً للسكن مثلاً، لكنت رأيت السوريون يصلون إليه ليبتعدوا أكثر مسافة ممكنة عن بلادهم.
تلك الصورة القديمة القائلة بأن الأقليات رأت في سوريا ملجأ لها ماتت بالفعل اليوم. يبقى أن يستتبع الموت الفعلي موت الصورة في أذهان الناس. سوريا ملجأ للأقوياء اليوم لا للضعفاء، هي منزل مهدّم يضم من رأى في الحرب فرصة لا كارثة، ومن شهر سيف القتال قبل غيره وراح يصنع الضحايا بدل أن يكون هو الضحية. فلنتعلم من التاريخ، ولنكمل بمن تبقى، فقد يُنصف المستقبل الآتي جماعات سوريا كلها. أو ربما نحمل جميعاً أمتعتنا، نسير صوب بلاد أكثر أماناً، ونغلق الباب على منزلنا القديم دون رجعة أو رحمة.