خاص – بيروت
أخلى 80 ألف إسرائيلي منازلهم القريبة من الحدود الشمالية مع لبنان بسبب صواريخ حزب الله التي تستهدف مواقع الجيش الإسرائيلي، في ما يبدو من بعيد مناوشات لا هدف منها ولا جدوى، ولا نمط يحكمها.
إلا أن أحمد شعراوي، المحلل في “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات”، يقدم نظرة متأنية إلى الحرب اليومية الصغيرة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، في مقالة تحليلية نشرها موقع مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية، فيرى أن هناك ثلاث مراحل مختلفة للقتال الذي بدأ حين قرر “حزب الله” في 8 تشرين الأول/أكتوبر مساندة حركة “حماس” في حربها مع إسرائيل.
في البداية، استهدفت إسرائيل مواقع إطلاق الصواريخ التابعة لحزب الله قرب الحدود، “لكنها تحولت في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر إلى هجمات تستهدف العمق اللبناني، هدفها تدمير البنية التحتية العسكرية لحزب الله”، كما يلاحظ، خصوصاً بعدما أغار الإسرائيليون في كانون الثاني/يناير الماضي على شقة سكنية في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، حيث يتحصن حزب الله، وقتلوا صالح العاروري، المسؤول في “حماس”.
وهم الأمنيات
يبدو حزب الله حريصاً على ألا يثير ردة فعل إسرائيلية هائلة، خصوصاً أن الشعب اللبناني بأطيافه السياسية والدينية المختلفة يحملونه مسؤولية التورط في هذه الحرب، فيما يقول شعراوي إن “حزب الله” يفضل ادخار مخزونه من الصواريخ الدقيقة لمراحل تالية في الصراع.
ينفذ “حزب الله” ضرباته مستهدفاً المواقع الإسرائيلية بصواريخ موجهة مضادة للدبابات وبطائرات من دون طيار، بينما يغير الجيش الإسرائيلي على ما يسميه “بنى تحتية لحزب الله” ويغتال مسؤوليه الميدانيين مستخدماً المدفعية وسلاح الجو والطائرات من دون طيار وطائرات الهليكوبتر، إضافة إلى تفعليه نظام القبة الحديدية الدفاعي لمنع سقوط الصواريخ في الأراضي الإسرائيلية.
يؤكد “حزب الله” دائماً، على لسان أمينه العام حسن نصر الله، على أمرين: الأول، أن عملياته الحدودية أجبرت الجيش الإسرائيلي على تحويل ثقله العسكري من قطاع غزة والضفة الغربية إلى الجبهة الشمالية مع لبنان؛ والثاني، أنه سيتصرف في الحرب مع إسرائيل بحسب ما يفرضه الميدان، وهذا الميدان لم يفرض حتى الساعة – على ما يبدو – ما يستدعي عملاً عسكرياً كبيراً.
تحوّل لم يستمر
يقلل شعراوي من أهمية هذا الكلام، ويقول إنها “حجج” تعكس ما كان حزب الله يأمل في تحقيقه، “إذ لا مؤشر واضحاً على أن إسرائيل واجهت أي نقص على جبهاتها الأخرى بسبب هجمات حزب الله”، أولاً، والميدان فرض أكثر من مرة رداً قوياً على إسرائيل، ولم يأتِ. فبحسبه، استهداف الإسرائيليين مصنع ألومنيوم في النبطية بجنوب لبنان في 17 تشرين الثاني/نوفمبر ورد حزب الله الانتقامي على مقر الفرقة الحادية والتسعين التابعة للجيش الإسرائيلي في برانيت بشمال إسرائيل في 20 تشرين الثاني/نوفمبر، يشيران إلى تحول نحو استخدام أسلحة جديدة وتوسيع نطاق الاشتباك مقارنة بالمرحلة الأولى”، لكنه لم يستمر، بل توقف هنا.
يضيف شعراوي: “قتل العاروري مثل بداية المرحلة الثالثة من الصراع. رد حزب الله باستهداف قاعدة ميرون الجوية الحساسة في شمال إسرائيل مطلقاً 62 صاروخاً، لكن إسرائيل قتلت وسام الطويل، نائب قائد قوة الرضوان الخاصة في حزب الله، في 8 كانون الثاني/يناير؛ وقتلت علي حسين برجي، قائد وحدة الطائرات من دون طيار في حزب الله في 9 كانون الثاني/يناير؛ وقتلت علي الدبس، قائد قوة الرضوان، في 14 شباط/فبراير، وقتلت علي أحمد حسين، العنصر البارز في قوة الرضوان، في 8 نيسان/أبريل، ويوسف الباز، قائد المنطقة الساحلية في حزب الله، في 16 نيسان/أبريل”.
يلاحظ شعراوي أن توسع نطاق الاشتباك لم يدفع “حزب الله” إلى استخدام أسلحة متطورة مثل الصواريخ الدقيقة، لأنه لا يريد تصعيداً يؤدي إلى الانزلاق إلى حرب واسعة، على الرغم من أنه يدفع ثمنًا باهظاً. يضيف: “فقد أكثر من 270 شخصاً، وأصيبته بنيته التحتية العسكرية في جنوب لبنان بأضرار جسيمة، لكن القرار بالمواجهة الكبرى لم يتخذ، لأسباب عدة أهمها عجز اللبنانيين اليوم، وخصوصاً أنصار حزب الله نفسه، عن تحمل تكاليف الحرب، وهم يرزحون أصلًا تحت وطأة أزمة اقتصادية غير مسبوقة”.
تفكير مليّ جداً
هذا ثمن باهظ، كما يقول شعراوي، يتكبده حزب الله، لكن الحركة الدبلوماسية الأميركية التي يقودها أموس هوكشتاين لا تهدأ، وكل جهودها منصبة على أمر واحد: منع التدهور في جنوب لبنان، وانزلاق الطرفين إلى حرب مدمرة، خصوصاً في ظل التوعّد الإسرائيلي المستمر بهجوم عنيف على الأراضي اللبنانية.
في ظل هذه التهديدات، تؤكد تقارير إسرائيلية أن الوضع في شمال البلاد سيبقى على ما هو عليه طويلًا. فبعد نحو 200 يوم من الحرب في قطاع غزة، “يجب التفكير ملياً في قرار الحرب مع حزب الله، الأفضل تنظيماً وتسليحاً من حماس، والذي يعتبر درة التاج الإيراني في المنطقة”، بحسب تقرير نشره موقع “كالكاليست” العبري، هو خلاصة ورشة عمل بحثية أقامها معهد سياسات مكافحة الإرهاب في جامعة رايخمان قبل ثلاث سنوات، بمشاركة 6 مراكز بحوث 100 خبير في الإرهاب، إلى جانب مسؤولين كبار سابقين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وأكاديميين ومسؤولين حكوميين، درسوا جميعًا الجوانب الحاسمة المتعلقة بإعداد الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية لحرب متعددة الساحات.
يخلص هذا التقرير إلى أن الحرب مع “حزب الله” تعني سقوط 2500 إلى 3000 صاروخ يوميًا على إسرائيل، “وتعني أيضاً نفاذ مخزون القبة الحديدية خلال أيام، وتعطيل سلاح الجو والحد من قدرته على العمل بتوجيه الصواريخ الثقيلة والدقيقة إلى المدارج، وقصف البنى التحتية الرئيسية من محطات توليد الكهرباء والموانئ البحرية في حيفا وأشدود بصواريخ تزن رؤوسها الحربية مئات الكيلوغرامات، وضرب مصانع الأسلحة ومستودعات الطوارئ والمستشفيات بعشرات المسيّرات الانتحارية الإيرانية الصنع، وسقوط آلاف القتلى والجرحى في الجبهتين الشمالية والداخلية”.
يقول البروفيسور الإسرائيلي بوعز غانور، أهم المشاركين في إعداد الدراسة: “ستنفذ إسرائيل وعيدها بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، لكن الذي سيجري في الداخل الإسرائيلي لا يمكن تصوره”. يضيف: “إن كانت الحرب مع حركة حماس دفعت ببعض المسؤولين الإسرائيليين إلى الدعوة لاستخدام السلاح النووي ضد غزة، ولو كان كلاماً، فكيف سيكون الأمر مع حزب الله؟”.
مرحلة رابعة إن فشلت الدبلوماسية
يعترف شعراوي في “ناشيونال إنترست” بصعوبة التكهن بمدة المرحلة الثالثة من الاشتباكات على جبهة الشمال. يقول: “في إسرائيل، الكلام كثير على عملية موسعة سينفذها الجيش الإسرائيلي في عمق الأراضي اللبنانية، فيما يرجح أن تقوم إيران بدفع حزب الله إلى توسيع ضرباته على إسرائيل، خصوصاً بعد إطلاق طهران أكثر من 300 صاروخ وطائرة من دون طيار نحو إسرائيل في 13 نيسان/أبريل. وهذه خطوة قد تُحدث تغييرات جذرية في المنطقة في أي لحظة، تماماً كما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر”.
إلا أن هوكشتاين آتٍ سريعاً إلى المنطقة، وفي جعبته أفكار لخفض منسوب التصعيد، خصوصاً بعدما تجاوز “حزب الله” والإسرائيليون قواعد الاشتباك، ما ينبئ بإمكانية انتقال المواجهات إلى مرحلة “رابعة” لا يمكن التكهن بحدودها، خصوصًا أن ضبط الصراع خلال 200 يوم، من دون التوصل إلى أي اتفاق لوقف الحرب في غزة، زاد الاحتقان في جنوب لبنان.
يعرف هوكشتاين تماماً أن لا نية لـ “حزب الله” خوض معركة “كبرى” الآن مع إسرائيل، ولا نية لإيران في ذلك أيضاً. كما أن لا نية إسرائيلية في الدفع بالمنطقة نحو منزلق لا تحمد عقباه، والدليل على ذلك ناي “حزب الله” بنفسه عن الاشتباك الصاروخي الإيراني – الإسرائيلي. تقول ريم ممتاز، زميلة استشارية في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية: “بالنسبة إلى حزب الله وإيران، الأمر يتعلق بتحليل التكلفة العسكرية والعائد السياسي. فلو سعت طهران إلى حرب شاملة مع إسرائيل، لكان حزب الله جزءاً أساسياً من هجومها”، فيما يعتقد المحللون أن رغبة إيران في الاحتفاظ بقوتها النارية الاحتياطية في حالة تنفيذ إسرائيل تهديداتها بإبعاد “حزب الله” عن الحدود بالقوة، في غياب اي حل دبلوماسي، تساعد في تفسير الصبر الذي يتحلى به “حزب الله”.
من هذا المنطلق، يتحرك هوكشتاين في اتجاه العمل على فرض تنفيذ القرار الأممي 1701، الذي ينص على وقف العمليات العسكرية على الحدود. العقبة، والخطورة أيضاً، تكمنان في الرغبة الإسرائيلية في فرض تراجع عناصر “حزب الله” حتى نهر الليطاني في جنوب لبنان، أي بعيداً عن الحدود، كي ينعم سكان شمال إسرائيل بالأمان، من دون أن تنفذ تل أبيب حصتها من بنود الاتفاق الأممي نفسه.
هذا أمر ينذر بمواجهات أشرس، حتى لو لم تتحول إلى حرب واسعة النطاق، خصوصاً أن “حزب الله” يعد الإسرائيليين بمفاجآت عسكرية ليس آخرها إسقاط المسيرات الإسرائيلية في جنوب لبنان، وخصوصاً أن تل أبيب تتوعد اللبنانيين كلهم بعصر من الظلام.