بيروت
بعد 109 أعوام على الإبادة الأرمنية، لا يزال صدى هذه القضية المركزية في الشرق محورياً عند الأقلية الأرمنية المنتشرة بين سوريا ولبنان بشكلٍ أساسي. وعلى الرغم من تشكيلها حدثاً مأساوياً في تاريخ الإنسانية، بوصفها واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية، ما زال الشرق يعبق بالكثير من المجازر وجرائم الإبادة، بحق الأقليات والأكثريات على حدٍ سواء.
اعترفت دولتا سوريا ولبنان بالإبادة الأرمنية، وهذا يعني إقرارهما بأن ما حدث في عام 1915 نتج عن “نية جرمية مقصودة” من السلطنة العثمانية، عندما قتلت أكثر من مليون أرمني، بحسب معظم الدراسات الأرمنية.
ففي عام 2000، اعترف البرلمان اللبناني بالإبادة الأرمنية، فيما اعترف بها البرلمان السوري في عام 2020، مديناً في بيان الاعتراف “أي محاولة من أي جهة كانت لإنكار هذه الجريمة وتحريف الحقيقة التاريخية حولها”.
في حديث خاص مع موقع “963+”، يؤكد ريشارد قيومجيان، وزير الشؤون الاجتماعية اللبنانية السابق، أن شعوب المنطقة تتعاطف مع القضية الأرمنية، “ليس لأن ما جرى في التاريخ مؤثر فحسب، إنما لأن هناك تشابه في المظالم التاريخية التي تعرضت لها شعوب المنطقة كلها، كما بسبب الوجود الأرمني في المنطقة الذي سبق ما جرى في عام 1915”.
حينذاك، أدى تصاعد المشاعر القومية في السلطنة العثمانية إلى بروز دفع قوي غذّته السلطات القائمة لتوحيد البلاد وتغليب العنصر التركي فيها، ما أدى إلى تنفيذ موجة واسعة من الاعتداءات والجرائم بحق الأقليات، وخصوصاً الأرمنية منها.
التعاطف معهم كبير
يؤكد قيومجيان وجود بعض “المتطرفين، سواءً في سوريا أو لبنان”، ممن لا يكترثون لمعاناة الشعب الأرمني، ويرى أن هؤلاء “لا يمثلون إلا قلة”، بينما التعاطف العام مع الأرمن قائم بالفعل.
سبق الحضور الأرمني في الشرق تاريخ الإبادة، إذ يعود إلى القرن الثامن عشر، حيث بنيت كنيسة أرمنية في قرية بزمار شمال العاصمة اللبنانية بيروت في عام 1749، فيما استقر التجّار الأرمن بشكل كبير في مدينة حلب وغيرها من المدن التجارية السورية منذ القرن السابع عشر، وأقاموا فيها أعمالهم.
عشية اندلاع الحرب في سوريا في عام 2011، كان عدد الأرمن الذين يعيشون فيها نحو 100 ألف نسمة، يتمركز معظمهم في مدن حلب ودمشق واللاذقية والقامشلي. اليوم، لا يتجاوز عددهم 14 ألف سوري من أصل أرمني، بحسب بيانات تقديرية تقدمها مؤسسات وكنائس أرمنية عاملة في سوريا.
يخوض قيومجيان في موقف الأقلية الأرمنية في سوريا والحرب الدائرة فيها، فيرى أن الأرمن تعاطفوا أولاً مع المعارضة السورية، “لكن تطوّر الأمور وتخييرهم بين الحكومة السورية والتنظيمات الإسلامية المتطرفة دفعهم إلى اختيار الحكومة القائمة”.
ولا يُنكر قيومجيان أن العلاقة بين الحكومة السورية والأرمن السوريين “كانت جيدة” في فترات سابقة، خصوصاً “أن الرئيس السوري بشار الأسد يقدّم نفسه حامياً للأقليات، وهو ذكي في مقاربته العلاقة مع الأرمن وغيرهم من الأقليات”، إذ يمنحهم الحرية الدينية في مقابل إضفائهم الشرعية على حكمه، وفق تعبّيره.
إلى أرتساخ.. ثم إلى الشتات
من المؤكد أن الأقلية الأرمنية في سوريا لا تؤدي دوراً مهماً على صعيد التطورات القتالية والمعارك في البلاد، لكن وجودها التجاري قوي على الرغم من الهجرة الكثيفة التي عانوها، خصوصاً في مدينة حلب. يرى قيومجيان أن هذه الهجرة “في تزايد مستمر في سوريا ولبنان”، كما يؤكد وجود بضعة آلاف من اللاجئين السوريين الأرمن في بيروت، تهتم بهم الكنائس والمطرانيات الأرمنية المنتشرة في لبنان.
يضيف: “حتى قبل نزوح الأرمن السوريين من بلادهم، لقوا العناية والاهتمام من الدولة الأرمنية، التي منحتهم بيوتاً ومنازل في المناطق المتنازع عليها بين أرمينيا وآذربيجان. ومع خسارة الأرمن إقليم أرتساخ (ناغورنو-قره باغ) في عام 2020، فضّل الأرمن السوريون الهجرة إلى أميركا وفرنسا وكندا، وحتى أستراليا، حيث يوجد أقليات أرمنية هناك”.
وكان الأرمن قد خسروا إقليم أرتساخ بعد معارك شرسة مع آذربيجان المدعومة من تركيا، ما دفع الكثيرين إلى الهجرة من الإقليم نحو الداخل الأرمني أو إلى دول العالم.
يختم قيومجيان حديثه لموقع “963+” قائلاً إن الأرمن الباقين هنا “يحبون بلادهم، سواء في سوريا أم في لبنان”، وارتباطهم وجداني بهذه البلاد وهذه الأرض، ولديهم الكثير من المشترك مع باقي المواطنين، مشدداً على أنهم “ضحوا في سوريا ولبنان، وعاشوا معاناة مشتركة مع كل الفئات التي تعيش في ظروف صعبة في هذا الشرق”.