كثرة الحريات التي نتغنى بها في هذا الشرق، نادرة الوجود حقيقة. لسنا أحراراً بشيء تقريباً، فمعظم ما نمارسه ونستهلكه غريب عنّا. حتى أنظمتنا السياسية وثوراتنا، نتاج غربي، إذ لا يتعلق الأمر بنوع اللباس والمشروب حصراً، بل بكل جوانب حياتنا.
وإن كان نقيض الحرية الأقرب إلى الذهن هو السجن، نبقى كلنا سجناء ورهائن، أكنا سوريون أو لبنانيون أو فلسطينيون، أكنا نسكن في منازلنا أو في مخيمات للاجئين أو مجرد عابري سبيل نحو بلاد الدنيا الواسعة. حتى هؤلاء الأجانب الذين يأتون إلينا أحياناً، ننقض على حريتهم إن استطعنا ذلك.
في كتابه الوحيد، “عرين الأسود”، يروي تيري أ. أندرسون قصته كرهينة في لبنان خلال الحرب الأهلية في ثمانينيات القرن الماضي. يقدّم أندرسون واحدة من أكثر السرديات ملحمية عن البقاء والصمود في ظل ظروف قاسية وقاهرة. يتناول الكتاب تفاصيل حياته كرهينة والتحديات النفسية والجسدية التي واجهها خلال سنوات أسره، بما في ذلك التعذيب والعزلة و “بعض الأمل الذي ما أن يقترب من أن ينتهي حتى يعود من جديد”.
وأندرسون الذي كان مراسلاً صحفياً في وكالة “أسوشيتد برس”، توفي الأمس في 21 نيسان/أبريل الجاري، بعد معاناة نفسية وجسدية طويلة جراء “الاحتجاز لست سنوات وعذاباته المتراكمة” حسب أفراد عائلته.
في عام 1985، قام تنظيم “حزب الله” اللبناني بأسره في بيروت، كما أسر العشرات غيره من الأجانب، من فرنسيين وأميركيين وروس. “مهنة” الخطف مارسها الحزب بين ذلك العام والعام 1991، تاريخ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. لم يطلب الحزب فدية ولا طلب مقابل، بل جعل الرهائن وديعة في متناول الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فإن أرادت طهران بعض الأسلحة من باريس، فاوضت على رهائن الحزب من حملة الجنسية الفرنسية، وإن أرادت من موسكو موقفاً في مجلس الأمن الدولي، وعدتها بإطلاق سراح بعض الرهائن الروس، وإن أردت من واشنطن أن تخفف ضغطها على النظام الإيراني، أطلقت له بعض الرهائن الأميركيين، حسبما يروي وضاح شرارة في كتابيه المرجعيين “دولة حزب الله: لبنان مجتمعاً إسلامياً”، و”طوق العمامة: الدولة الإيرانية الخمينية في معترك المذاهب والطوائف”.
والحال أن أندرسون ارتاح من عذابات الدنيا ربما، وتنعم في آخر سنوات حياته ببعض البحبوحة المالية، بعدما رفع دعوة على الحكومة الإيرانية، وتلقى، عام 2002، حوالي 26 مليون دولار أميركي حوّلت له من حسابات طهران المجمّدة في مصارف الغرب. فيما نبقى نحن أسرى بلادنا ودموية بعض شعبها، نبحث عن طريقة للنجاة منها، حتّى ولو ركبنا البحر واختفينا غرقاً فيه.
الحرية المفقودة في لبنان مثلاً، لا تميّز بين لبناني أو لاجئ على جميع الأحوال. كلنا سواسية في هذا السجن الكبير الذي نحن فيه. لا اللبناني سعيد بما آلت إليه بلاده واقتصاده وظروفه، ولا اللاجئ السوري مسرور لحالته الصعبة في لبنان. اللبناني يبحث عن “كيس رمل” ليضربه ليقول لنفسه وللآخرين أن كل الحق على الكيس، فيما اللاجئ يتلطى من حيط لآخر، ويبحث عن سفارة أو مركب ليغادر هذه البلاد إلى غير رجعة.
تخيل مثلاً أن لبنان احتل المرتبة ما قبل الأخيرة في “مؤشر السعادة العالمي” في عام 2024، فيما السوريون احتلوا المرتبة الثانية عربياً والرابعة عالمياً في قائمة الشعوب الأكثر بؤساً، في العام نفسه.
والسجون أشكال. فالخيمة التي تعجّ باللاجئين تكون سجناً بحد ذاتها، تماماً كما تبدو حدود مراكبهم الضيقة الموشكة على الغرق. وفي سوريا، تلك الفصائل العسكرية المتقاتلة بلا هدف أو معنى، تصنع من الأرض سجناً من نوع آخر، حيث تقتطع لنفسها جزءاً ليدرَّ عليها الأرباح، وتأسر سكانها بقوة الأمر الواقع. حتى أموال الناس معتقلة في المصارف، وتقلبات الليرة قد تجعل من الحرّ في ماله ليلاً، رهينة في سجن الفقر والعوز في فجر اليوم التالي.
أما قطاع غزة الفلسطيني، فسجن من نوع آخر، وقد يكون الأسوأ والأكثر دموية من بين كل سجون العالم. مئات الآلاف من المسجونين بين حدود معبر رفح المصري وطائرات الجيش الإسرائيلي وحِمم مدافعه. لا هرب من هذا السجن، فلا البحر يحمل أحداً من الغزاويين إلى عالم بعيد، ولا الموج يجلب خلاصاً طال انتظاره.
قيل مرة “إن الأرض التي لا تُروى بالدماء لا تنبت حرية”. لو كان هذا القول المنسوب لزعيم الثورة الكوبية إرنستو تشي جيفارا صحيحاً، لكانت سوريا وفلسطين وزّعتا حرية على الكوكب بأسره. لكن، يبقى الدم هو الجاري في هذه البلاد، فيما الحرية معدومة، وتبدو كنجمة بعيدة في سماء مظلمة، تراود أرواحنا بأمل بسيط، لكنها في الواقع تبدو كأحلام اليقظة، معلّقة بين الواقع والخيال. فقد أصبحت الحرية في هذه البلاد زهرة نادرة، تتفتح بصعوبة في صحراء من القيود والرجعية، تترنّح في رياح الظلم والاضطهاد، ولا يبدو أنها ستزهر إلا بعد موجات جديدة من الشقاء والتضحية الطويلة.
فلنستمر في الحلم، ولنواصل النضال، لأنه بالفعل، إن الأرض التي تروى بدماء الأبرياء، قد ترى يوماً شروق الحرية، وقد تنبت زهور الأمل في كل ركن من أركانها، ولنبقى نؤمن بأن غداً سيكون أفضل، حتى وإن كانت الآمال تتلون بألوان اليأس أحياناً، فلا بد أن يأتي يومٌ نصبح فيه أحراراً فعلاً.