الإصرار الدائم على إحالة دلالة الطائفية إلى بعدها السياسي فحسب، أو رميها إلى حقل السياسة، أو الاكتفاء بالقول إنها تسييس للدين تمارسه جهات سياسية ما، أو الإصرار على أنها ظاهرة سياسية فقط، لهو نظر ينبئ عن فكر كسول لا يبغي معالجة تعقيدات هذه الظاهرة، وفي أحيان يخفي مرضاً يسعى لتبرئة ذات مثقف تقول بهذا من لوثات طائفيتها هي نفسها. وإذا كان من الصعب هنا تناول تعقيدات هذا المفهوم، لكن يكفي القول إن الطائفية معقدة بحجم تعقد الظواهر السوسيولوجية البشرية على الأرض، ولا يمكن حصرها بزاوية محددة ما. فالطائفية، بصرف النظر عن بعدها الديني الأساس، هي سياسية (حينما تُقاد من قبل نخب سياسية ما تستثمر في الطوائف)، وهي قانونية (حينما تُمارس قانونياً في المحاكم الشرعية وقوانين الأحول الشخصية من زواج وطلاق)، وهي سوسيولوجية تسري في دماء العلائق الاجتماعية (حينما تُعاش الطائفية بشكل يومي، حتى ضمن النكات الشعبية، ضمن تكتلات اجتماعية ذات لون طائفي ما، أو بين هذه وبين تكتلات أخرى)، وهي أصولية (حينما تُقاد من قبل نخب أصولية تلعب في جغرافية الطوائف والتي تتجاوز جغرافية حدود الدولة، كما هو الحال مع الأصوليات السنية السورية وشقيقاتها من الأصوليات الشيعية). إلا أنها أيضاً تعبير ثقافي، أو قل إفصاح المثقف عن تأزم كيان ثقافته: بين التمترس بعصاب الطائفة التي خرج منها المثقف وبين التعلق بأهداب ماركس أو أي هبة يسارية أخرى. كيف؟
والحال، إذا كان لهذه التمظهرات المختلفة للطائفية ما يمكن أن تفيد به، فهو الامتناع عن حصرها في قالب معياري ما. بداية لا نستطيع لكي نحل المشاكل الطائفية التي بدأت تشتد ببعض البلدان العربية مع بداية الألفية الثالثة القفز فوق الاجتماعات البشرية وتجاهل مكوناتها والاكتفاء بممارسة كسل فكري آخر يشدد على أن مصطلحات مثل “طوائف” و”الطائفية” هما مصطلحان صناعيان قاما بعد نشوء الدولة الحديثة، بفعل قوى شيطانية كولونيالية، ثم استغلهما الخطاب السلطوي للحفاظ على مكاسبه، ولا الاكتفاء بالقول والاستمرار بالشجب أيضاً أن هذه الطوائف هي أسس البلاء لروح الطائفية التي تهب من فينة إلى أخرى ببعض المجتمعات الخ.
فقد تميزت كتابات كثير من المثقفين عندنا –وخاصة في المراحل الحالية– بالتنديد بالطائفية ونتائجها المدمرة، بيد أن معظمها بقي على مستوى السطح، ولم يستطع الدخول إلى عمق الإشكال الطائفي، سوى إعادة الكرة برفع الشعارات بوجوه مجتمعاتها من غير القبض على آليات اعتمال الطائفية ومحاولة فهمها من أجل حلها، لا بل عدم معالجتها في ذواتهم المثقفة المطيّفة ذاتها والتي لم تستطع حتى تجاوز أسماء طوائفهم المخيالية (مثلاً في تعريف ذواتهم انتمائياً بأسماء طوائفهم، وإصرارهم المرضي بنفس الوقت على التشدق بانتماء يساري أجوف ما: ماركسي، لكن علوي. قومي سوري، لكن اسماعيلي. سني، لكن اشتراكي. درزي، لكن يسار ديمقراطي أو ثوري الخ). وهو الأمر نفسه الذي يمارسه فريق البعث المطيّف من رؤوس السلطة ومن لفّ لفيفها من مثقفيها وكهنتها. وكأننا أصبحنا أمام خطاب طائفي لطائفتين متقابلتين تتنازعان على هذا الشارع:
فهناك طائفة السلطة، وهي تبدو متماسكة في خطابها، طبعاً التماسك مقارنة بالطائفة الأخرى أي طوائف المثقفين، والتي من المفترض أن تكون مصدر قلق دائم للسلطة. لكن ما قدمته سوريا يظهر أن قلق المثقفين لم يهدد كيان الخطاب السلطوي، بقدر ما غدا هذا القلق يتهدد المثقفين فيما بينهم وتأزماتهم الطائفية، والتي لا تعبر بالضرورة عن الطائفية في الخطابات الشعبية أكثر مما تجسد التأزم الثقافي للمثقفين أنفسهم. فأصبح بالتالي المشهد الثقافي في مسألة تفسير الخطابات الطائفية ليس مسألة رأي ورأي آخر، بل عجز مخيف عن فهم ما يجري وما يتطلبه من استحقاق تاريخي أمام المثقف. وما رفع الشعارات الجوفاء التي يرفعها الكل بوجه الكل: لا للطائفية، ولا لكذا، سوى تعبير عن طائفية الكل ضد الكل.
وهكذا، لم يتجاوز الخطاب الثقافي إلى الآن، في أغلب أطروحاته، سطحية الخطاب السلطوي ذلك. فالخطابان يقرّان من حيث المبدأ بمحاربة الطائفية، بيد أنّ كلا الخطابين يمارس نوعاً من الخطاب الطائفي على المجتمع، وذلك في الشكل الذي يحارب من خلاله طائفية هذا المجتمع. إن مثل هذا الخطاب، سواء ذاك السلطوي أو الذي يخرج من تأزمات كثير من المثقفين السوريين منفصل للأسف عن المجتمع ولا علاقة له بطائفية الطوائف، بالرغم أن كليهما يقول إنه ضد الطائفية! إنه خطاب يعبر بالعمق عن طائفة من يحمل هذا الخطاب نفسه (وهنا أسماء كثيرة لا يمكن ذكرها). والمشكلة أكثر تتجسد في إعادة طرح هذا النوع من الأقنومات والشعارات أن أغلبها لا يرفع بوجه المجتمع فقط كدواء مخدر لبعض الوقت استجابة للضغوط الطائفية التي تهدد سلامة أمن المجتمع، بل تُرفع هذه الشعارات بوجوه بعضهم، وكأنّ المشكلة الطائفية عندهم وليست في القاع الاجتماعي.
طبعاً توحي هذه النقطة بأمرين مترابطين:
أولاً: إفلاس الخطاب الثقافي السوري، المتشرذم طبعاً، عن أن يقدم أي شيء ولو صغير للمجتمعات الطائفية السورية، ولا نقول النزول لشارع المجتمع والاستماع إليه. وهذا يعبر أيضاً عن إعفاء المثقف نفسه من المسؤولية أمام مجتمعه وخاصة الآن في ظل تشوش الرؤية التي تعصف بمجتمعاتنا (هذه الرؤية التي كشفت عن خواء الأدلوجات الثقافية المتهالكة أمام حركة الشارع). لذلك ليس غريباً أن نتلمس إدانة ضمنية من مثقف ما لهذا المجتمع. لماذا؟ لأنه طائفي، لأنه متعدد الطوائف، لأن خطابه لم يرتق لمستوى خطاب حضرة المثقف. وعلى مدار السنين السابقة كما نعلم، لم يستطع الخطاب الأيديولوجي (خاصة الذي يقول ‘نه علماني) من تمكين رؤيته في الحقل الاجتماعي، وأهم الأسباب في ذلك هو حالة الفصام التاريخي بينه وبين مجتمعه، والتي يعود أحد أسبابها إلى النرجسية والعاجية له، وإلى المرجعيات نفسها التي يطرح بها الخطاب المثقف نفسه على الجمهور والتي تناقض مرجعيات ثقافة المجتمع وسلوكه، الأمر الذي أدى وما زال يؤدي إلى حالة انعدام الثقة بهذا الخطاب وازدياد الفجوة بينهما، وتعزيز الطائفية أكثر بينه وبين مجتمعه.
والأمر الثاني: هو عجز المثقف عن فهم الآليات العاملة في سوسيولوجيا الديني المنغلق التي جعلت منه طائفياً، وذلك بالتضافر مع آليات العامل السياسي المباشر. ويعود سبب هذا العجز إلى الافتقار للآليات النقدية والسوسيولوجية في فهم الظاهرة الدينية والطائفية؛ هذا إضافة إلى عامل مهم هو الكونتونات الإيديولوجية الثقافوية المحتجز داخلها المثقف، والتي لا تقل طائفية عن طائفية المكونات الاجتماعية، عدا عن أن هذا الخطاب هو خطاب فوقي مازال المثقف يمارسه على مجتمعه: بدون إذن ولا دستور يرفع الآن بوجهه شعارات منددة بالطائفية والأقوامية والإثنية الخ، (من غير أن يعالج طائفية ذاته نفسها) وكأن هذا النوع من الشعارات يمثل عصى موسى الإلهية ستحل مباشرة الإشكالات الطائفية للمجتمع.
إنّ طرحاً ثقافياً يريد حلاً للمعوقات الطائفية في سبيل تأسيس شعور وطني، لن يكتب له النجاح، إلا بمعالجة حقيقية أوالية لطائفية الخطاب الثقافي نفسه، أولاً وقبل كل شيء، ليس أقلها الأسس المرضية العصابية في داخل هذا الخطاب، وبمعالجة السُلط الاجتماعية والقبائلية الطائفية التي تعتمل في داخله، والتي لا تعبر سوى عن هشاشة ذات المثقف وثقافته. أما أن يلجأ هذا الخطاب إلى أسلوب السلطة نفسه في رفع الشعارات المقولبة والجاهزة، فلن يتعدى الأمر سوى إعادة إنتاج أعمدة السلطة نفسها التي تلحف ذاتها الطائفية بأهداب يسارية لا تتعدى كونها ظواهر صوتية.