رد إيران على استهداف قنصليتها في العاصمة السورية دمشق، لم يكن مميزاً فقط بقلة تأثيره وصغر حجمه، بل أيضاً بالتصعيد المحدود الذي لم يؤدي إلى تفاقم الوضع. وفي حين أن إسرائيل لم تظهر قلقاً بالغاً تجاه هذا الرد العسكري الذي لم يلحق بها أية أضرار تُذكر، إلا أن إيران عبّرت كذلك عن امتنانها للنتائج التي تحققت، حتى وإن لم تسفر عن إصابة إسرائيلي واحد. استوى الضارب والمضروب وأعربا عن رضاهما من نتيجة الرد الإيراني، ضمن لعبة إقليمية كثيرة الضوابط.
الرد “الموزون”، كان الجانب الإيراني قد أعلن عنه مراراً طوال الأسبوع الماضي. طهران تكره المفاجآت، ولا تحب المباغتة. تمارس الحرب والسلم بشكل متأنٍ ومدروس. أُخطِر الجانب الأميركي بالهجوم، وبدوره أطلع الجانب الإسرائيلي عليه، فعلم الجميع بالحدث قبل وقوعه. حتى تركيا، قالت في بيان رسمي صباح 14 نيسان/أبريل الحالي أن طهران أعلمت الأميركيين من خلالها بالرد وحدوده وبأنه “متعلق فقط بالاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية” في العاصمة السورية أوائل الشهر الجاري.
لطهران تاريخ مماثل من هذه الأعمال العسكرية التي مارستها دون مفاجأة أحد. في كانون الثاني/يناير عام 2020، اغتالت الولايات المتحدة قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني. كان الرجل أرفع شخصية عسكرية تابعة للحرس الثوري الإيراني، فاستلزم الأمر “رداً” ولو محدوداً على ما تعرضت له إيران من مذلة.
في حينها، عاش العالم في حيرة حول نوعية وحدود وكيفية الرد الإيراني. مرّ أسبوع كامل، ثم أطلقت طهران حوالي 18 صاروخاً على قواعد أميركية في العراق دون أن تصيب أحد. الرد الباهت، كان الجانب الأميركي قد أُخطِر به عبر السفارة السويسرية في طهران، حسب بيانات صحفية متعددة صدرت بعد الرد بأسابيع.
حتى الرئيس الأميركي في حينها، دونالد ترامب، كان على عِلم بالرد الإيراني. إذ قال بعد خروجه من السلطة أن الجانب الإيراني قد أعلمه بحدود الهجوم “فلم أكترث جداً لكل هذا الأمر، لأنني كنت أعلم أنهم جبناء ولن يردوا جدياً، بل سيكتفون بأعمال عادية ليكسبوا استعطاف مؤيديهم لا أكثر”.
وأطلقت طهران حوالي 185 طائرة مسيّرة و36 صاروخ “كروز” و 110 صاروخ أرض – أرض مساء 13 أبريل الجاري حسب صحيفة “نيويورك تايمز”، مستشهدة بمسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى. لم تصل كل هذه الأسلحة إلى الأراضي الإسرائيلية، لأن من يملك دعم واشنطن ولندن لا يلحق به ضرراً جمّاً، خاصة بعد أن قامتا بإسقاط كل ما أطلق صوب إسرائيل فوق العراق والأردن وسوريا.
على الرغم من هشاشة الرد وأثره شبه المعدوم، ترى طهران أن ما قامت به مهم ومؤثر. فالتحلّي بجرأة إطلاق هذا العدد من الأسلحة صوب تل أبيب، فيه بعض الجسارة، حتى وإن لم يصل أي شيء منها إلى الأراضي الإسرائيلية. التنسيق المسبق سمح لتل أبيب وحلفائها بأن يكونوا جاهزين، لكن مجرد إطلاق النار صوب إسرائيل هذه المرة، يسمح بتكراره في المستقبل. وهو ما يُعطي إيران نقطة إضافية في فرض مكانتها الاستراتيجية، على اعتبار أنها الآن قادرة على تخويف العالم من أي مغامرة مقبلة ضد تل أبيب.
القوة التي تملكها طهران في مواجهة إسرائيل والغرب عبر الفصائل الموالية لها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ستزاد عليها قوة إضافية، وهي إمكانية تهديد تل أبيب من طهران مباشرة.
في المقابل، ليست إيران وحدها الراضية عمّا جرى، بل إسرائيل كذلك. فهذه الأخيرة، رأت بشكل عملي مدى مكانتها لدى واشنطن ولندن، وعلمت أن هؤلاء يطلقون صواريخ طائراتهم القادمة من قواعدهم العسكرية في قبرص وأذربيجان والعراق والأردن من أجل حمايتها. تدرك إسرائيل، يوماً بعد يوم، قيمتها بالنسبة للغرب، ومدى عطفه عليها.
أصحاب الشأن ممتنون إذاً، أما دول سوريا والأردن والعراق ولبنان، فلا مكترث كم كبّد الرد الإيراني على اقتصادهم. المهم أن إيران وإسرائيل مرتاحتان للعبة العسكرية والاستراتيجية بينهما وضوابطها المحدودة وشروطها الدقيقة.
أغلقت مطارات عمان وبيروت، وسقطت الطائرات وأشلاؤها على العراق وسوريا. غادرت الطائرات المدنية وتوقف مرورها في أجواء هذه الدول الواقعة بين القوتين الإقليميتين اللتين تتصارعان في المنطقة. لا أرقام واضحة حول خسائر هذه الدول الضعيفة التي تعيش على هامش الصراعات الجدية في المنطقة، إلا أن توقف حركات النقل وتأثيراتها يكبد الدول عادة خسائر بمليارات الدولارات.
هذه أقدار الدول المارقة التي لا يكترث لها أحد. قدرها أن تكون أرضها حلبة للصراع بين القوى الإقليمية وأجواءها مسرحاً لطائرات الغير، ودون أن تكون لها قدرة حتى على التصرف أو فعل أي شيء. وحدها الأردن تجرأت على إسقاط ما أسمته “أجسام مجهولة” في سمائها، وهذا حقها الطبيعي في الدفاع عن سيادتها.
بينما تستمر إسرائيل وإيران في لعب دورهما المضبوط في الصراع الإقليمي، تظل الدول الضعيفة الأخرى في المنطقة الضحية الرئيسية لهذه الصراعات. فبينما تتباهى القوتان بقوتهما وتأثيرهما، تعاني الدول الأخرى، مثل سوريا والعراق ولبنان والأردن، من الخسائر البشرية والمادية جراء الاشتباكات الدائرة على أرضهم وفي أجوائهم.
تجد هذه الدول نفسها محاصرة بين تصرفات إسرائيل وإيران، دون أن تمتلك القدرة على التدخل بفعالية لحماية مصالحها الوطنية أو للتأثير في مسار الأحداث. وفي ظل استمرار الصراعات والتصعيدات، يزداد الضغط على هذه الدول ويزيد من هشاشة استقرارها السياسي والاقتصادي، وتبقيان على هامش التأثير في التطورات الإقليمية.