تجلس ميادة محمد (40 عاماً)، بعد أن تنهي تنظيف أحد المنازل التي تعمل بها، لتحصي ما توفر معها من أموال، في محاولة منها لشراء دواء التهاب، وأخرى من أدوية الاحتقان والبخاخات الأنفية وخافضات الحرارة، وتهمس بصوت منخفض تلاعبه غصات القدر، وبلهجتها الساحلية تقول لموقع “963+”: “خلص لشو بعملوا مليسة، ونعنع، وبابونج، وكمادات الرشح عياره أسبوع وبطيب نهائياً، مارح ادفع كرمال دوا التهاب واحتقان وخافض حرارة 40 ألف ليرة، بجيب فيها أكل للبيت”.
هذا الوضع لا ينطبق على السيدة الأربعينية فقط، ولا يتعلق بمحافظة أو مدينة دون سواها، بل هو حال غالبية السوريين، الذين باتوا يكتفون بالأدوية المزمنة فقط، وخصوصاً لكبار السن أو لمن يعانون من أمراض مزمنة، وذلك لأن وزارة الصحة في الحكومة السورية رفعت أسعار الأدوية يوم السابع من كانون الأول/ديسمبر الماضي، دون إعلان رسمي واضح، وأتت الزيادة بنسبة تتفاوت بين 70 إلى 100%، وهي الثالثة عام 2023 في سعر الأدوية الوطنية، وذلك بعد مطالبات عديدة من أصحاب المعامل الدوائية، في ظل ارتفاع سعر الصرف بشكل كبير، وعدم موائمته لتكاليف الإنتاج، وتنتج حالياً معامل الأدوية ما يقارب 14 ألف صنف دوائي، عدا الفيتامينات والمتممات الغذائية، حسب التصريحات الأخيرة للإعلام.
ويأتي هذا الارتفاع بعد 5 أشهر من رفع الأدوية للمرة الثانية، وزيادتها بطريقة صريحة ورسمية بنسبة 50%، بعد تعديل سعر الصرف وفق المصرف المركزي في تموز/يوليو من العام الماضي.
الدواء بنصف راتب وأكثر!
تحصل أسرة هناء أحمد (57 عاماً) من مدينة حمص على مرتب تقاعدي لزوجها، يصل إلى 375 ألف ليرة سورية (ما يعادل نحو 27 دولار أميركي) بعد الزيادات الأخيرة خلال عام 2023، لكن تدفع منه 175 ألف ليرة سورية، ثمن أدوية مزمنة (قلب وضغط وللسرطان) لها ولزوجها، هذا فقط إذا لم تتعرض لرشح أو “كريب” قوي، وتجبر على تناول أنواع أدوية جديدة، لذلك لجأت السيدة الخمسينية مع زوجها الستيني إلى العمل عبر الإنترنت والتسويق للحصول على دخل إضافي يكفيها ثمن أدوية مزمنة واضطرارية أحياناً.
وفي مدينة أخرى من البلاد، وتحديداً في حلب، تعمل آية محمد، وهي طفلة أجبرتها الظروف أن تربي أخواتها، بعد وفاة والديها بالحرب، على بسطة قهوة، تتحدث أنها من منتصف العام الفائت، لم تذهب لصيدلية، كونها لا تتحمل تكاليف الأدوية، فهي لم تعلم بارتفاع الأسعار سوى من كلام المارين في الطريق. وتعتمد الطفلة على ذاكرتها عندما كانت ترى أمها وهي تعالج حالات الزكام والرشح، وتقول لـ”963+”: “بالقليل من الثلج للحرارة، والزهورات الحلبية للزكام”، وتدعوا الله دائماً أن يبعد عنها مع أخواتها مرضاً مزمناً، لأنها لن تقوى على شراء الأدوية.
صيادلة وأطباء حائرون!
انعكس ارتفاع سعر الأدوية على الأطباء والصيادلة، والناس معاً، حيث أصبحت الأسعار مرتفعة أيضاً على الصيادلة الذين يتعاملون بطريقة مباشرة مع معامل الأدوية التي تجبرهم على أخذ أنواع معينة من الاكسسوارات التي لا تباع في الصيدليات إلى جانب حصص الأدوية، وهذا ما جعلهم يرفعون أسعار الأدوية، إذ بات الأهالي يلاحظون اختلافها بين صيدلية وأخرى.
وعن مراحل رفع سعر الأدوية، تتحدث الدكتورة الصيدلانية دانا العمري من مدينة درعا لـ”963+”: “تعاني المعامل من قيود في الاستيراد، وفجوة بين السعر الحقيقي للتكلفة وثمن الدواء في السوق كون الشراء يتم بالدولار، لذلك طالب أصحاب المعامل بالرفع لأجل استمرارية توافر الدواء بالسوق، وانعكس هذا الموضوع على المواطنين الذين اقتصروا على شراء الأدوية الضرورية للأمراض المزمنة فقط، بينما أصبحت الأدوية العادية كأدوية الزكام، غير مطلوبة بكثرة، ووصل سعر الكبسولات من بعض أدوية الالتهاب الفعالة نوعاً ما، إلى 12 ألف ليرة سورية، وهو رقم لا يستهان به في حياة السوريين، إذ يعادل تقريباً ثمن 3 ربطات خبز”.
ولفتت العمري إلى أن أدوية الزكام وغيرها من الأدوية الاضطرارية “مرابحها عالية، وتجدها بكل صيدلية بسعر مختلف عن الآخر بفرق يصل لـ 500 ليرة أحياناً، دون وجود سبب معين أو قانوني، بل يحدد الدكتور الصيدلاني هامش الربح”.
بينما يتحدث أحمد علي(35) عاماً، وهو طبيب يعمل في مركز طبي ليلاً، ونهاراً في مشفى حكومي، أن “عدد المراجعين للمراكز الطبية وحتى العيادات الخاصة لأمراض عادية، مثل أوجاع القولون، والمعدة، والزكام، أصبح قليلاً جداً، ويتجه الناس لعلاج الأمراض المزمنة أو الصعبة، لأن المعاينة أصبحت أيضاً مرتفعة أولاً، والطبيب سيكتب أدوية وهي غالية، بالنسبة لذوي الدخل المحدود”.
ويعقب: ” أزمة الدواء ورفع سعره، أثّر على كل شرائح المجتمع، فالأطباء قل مرضاهم، والصيادلة قل زبائنهم، والمواطنون أجبروا على الصبر أكثر”.
ويعاني السوريون في مختلف مناطق البلاد من أزمات معيشة متعددة تتمثل بقلّة الخدمات والأدوية، علاوة على البطالة والفقر، إذ يعيش نحو 90 بالمئة منهم تحت خط الفقر، وفق ما أوردت “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” في تقريرٍ صدر عنها قبل أشهر.