قضية سرقة سيارة أو جريمة سياسية، خطف مقابل فدية أو خلاف عائلي أو “ثأر” بسبب منصبه المصرفي…
فرضيات كثيرة ما زالت قضية مقتل باسكال سليمان تطرحها، من دون أن تجد أجوبة شافية، فالروايات متضاربة والحكايات كثيرة. لكن المؤكد في كل ذلك أننا نعيش في تسيّب أمني رهيب، حدودنا مفتوحة على التهريب والمافيات، وقد وصل الأمر فعلاً إلى نقل جثة من لبنان إلى سوريا من دون حسيب أو رقيب، ما يعني أن الطريق سالكة وآمنة لكل أنواع الجريمة و”الزعرنة”. وغياب المحاسبة والتسيب الأمني يؤديان بطبيعة الحال إلى الفوضى كتلك التي شهدتها مناطق عدة أمس، حيث تم الاعتداء على مواطنين سوريين عزّل، بعد القبض عن سوريين متورطين في خطف سليمان ومقتله.
تحيل قصة سليمان إلى قضية زهراء الشيخ الشابة اللبنانية الجنوبية التي وقعت قبل مدة قصيرة ضحية “عصابات الفيزا” وتم بالفعل استدراجها ثم نقلها إلى الأراضي السورية، إلى أن تدخل “حزب الله” لـ”تحريرها” وإعادتها إلى عائلتها، من دون أن تحصل مراجعة حقيقية لملف الحدود المفتوحة وعصاباته ومن الجهات التي تقف خلفها. وتكرار هذا النوع من الجرائم يشير إلى وجود عمل ممنهج ومتقن خلف تنفيذها، وربما ما يُكشف من تلك الجرائم هو أقل بكثير مما تشهده الحدود السائبة بالفعل.
بالعودة إلى قضية سليمان، وفق التفاصيل التي تم كشفها فإن أربعة أشخاص يستقلون سيارة “سوبارو” بيضاء اللون أقدموا مساء الأحد بقوة السلاح على خطف سليمان عند مفترق يربط بلدة لحفد بطريق ميفوق وحاقل (قضاء جبيل)، لدى عودته من واجب عزاء. خطف سليمان، وهو منسق حزب “القوات اللبنانية” في جبيل، لتشهد المنطقة غضباً عارماً، حتى إن رئيس الحزب سمير جعجع الذي لا يغادر مقرّه إلا نادراً، نزل إلى مركز حزبه في جبيل التي أقفلت الطريق المودية إليها.
كل شيء في القضية يثير الريبة، لا سيما التطمينات التي رافقت يوم الإثنين، والمعلومات الأمنية التي أكّدت أن سليمان على قيد الحياة… وهي تطمينات تبين أنها كاذبة مساء اليوم ذاته، مع إعلان رئاسة الحكومة والجيش اللبناني مقتل الرجل، وانتشار فيديو لجثّته تم التقاطه في وضح النهار، بما يثبت أن كل تلك التطمينات كانت إما لمحاولة ضبط الشارع أو للبحث عن “تخريجة” أو لكسب الوقت وتأجيل الحقيقة.
إن كانت القصة مجرد محاولة سرقة سيارة، فلماذا إذاً تُركت السيارة ونقل الرجل إلى سوريا؟ وإن كانت جريمة سياسية كما اعتبر حزب “القوات”، فمن المستفيد منها ولماذا لم يتّهم الحزب جهة ما بشكل واضح؟
أما في حال كان الهدف أخذ فدية، فالموضوع مستبعد لأن سليمان ليس غنياً وليس من عائلة “مليارديرة”، يمكن الطمع بها. تبقى فرضية طرحها البعض وهي أن تكون هناك علاقة بين عمل سليمان في أحد البنوك المحلية وحيازته معلومات مالية خطيرة وبين جريمة قتله.
في كل تلك الفرضيات، يمكن القول إن البلد مشرّع على الجريمة وعلى القتل، وعصابات القتل تتزايد من دون رادع لا سيما على الحدود اللبنانية – السورية، التي لم تتوقف فيها أعمال التهريب بمختلف أنواعه. وحتى الآن ما روته البيانات والتصريحات السياسية والأمنية، لا يكفي لتركيب مشهد كامل والخروج برواية منطقية، تنسجم مع الواقع ومع ما نعرفه عن قوى الأمر الواقع والحدود المشرّعة والتي تسيطر جهات سياسية عليها، إضافة إلى سطوة مجموعات حزبية لبنانية على عدد من المناطق السورية.
وحتى “يكتمل النقل بالزعرور” تحوّلت القضية إلى صراع لبناني – سوري وهو أسهل ما يمكن فعله لإطفاء مصباح الحقيقة وتحوير القضية لتصبح أزمة لبنانية – سورية، وتحميل النزوح مسؤولية كل شيء، وهو ما ترجم في مناطق عدة عبر الاعتداء على سوريين ومنعهم من التجول. وقد انتشر فيديو من بشري يدعو السوريين إلى مغادرة المنطقة قبل الفجر.
ردود الفعل الخطيرة هذه، يبررها البعض ويعتبرها محقة كون الموقوفين من الجنسية السورية، إلا أننا حتى الآن لم نعرف من هي الجهات اللبنانية المتورطة في القضية، علماً أن الجريمة عابرة للحدود، ما يعني وجود جهات وأشخاص سهّلوا وشاركوا ونفّذوا في البلدين، لبنان وسوريا، ولا يمكن تنفيذ عملية بهذا الحجم من دون تنسيق وتسهيل مرور.
وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي في كلمته خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده حول قضية سليمان،ركز على ضرورة ضبط ملف النزوح السوري وتطبيق القوانين، محملاً مسؤولية ما حدث للنزوح والنازحين، داعياً إلى ضرورة تخفيف عدد السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية. وهو خطاب لا يخدم سوى تمويه الحقيقة وحماية المجرم الحقيقي وراء قضية سليمان وقضايا أخرى تعبر الحدود برشاقة بين لبنان وسوريا، ولا يدفع ثمنها سوى من لا ظهر لهم أو واسطة، وبينهم اللاجئون في لبنان.
وسط التكتم عن الجانب اللبناني المتورط بالقضية، تتصاعد حدة العنف، التي يقع ضحيتها مواطنون سوريون، لا دخل لهم بالقصة كلها، بحجة “تنفيس الغضب” أو الثأر لسليمان… أما المجرم الحقيقي فما زال حتى الآن خارج الضوء والخوف من أن تكون الحقيقة قد ماتت مع سليمان، كما ماتت حقائق كثيرة مع ضحاياها!