خاص – بيروت
لم تبدأ السلطة السياسية في لبنان بعد، إجراء الإصلاحات الهيكلية المطلوبة للخروج من الأزمة الاقتصادية والنقدية والاجتماعية التي تسيطر على البلاد منذ تشرين الأول/أكتوبر من العام 2019.
ولا يبدو أن موعد البدء بالإصلاحات سيكون قريباً، وهو ما تؤكّده منظّمات المجتمع الدولي المعنية بمتابعة الملف اللبناني. ورغم توقيع لبنان اتفاقاً على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي في نيسان/أبريل 2022، إلاّ أن بنوده الخمس لم تبصر النور، ما خلا بعض النقاط التي طُبِّقَت بشكل مشوَّه.
واللافت للنظر، أن السلطة السياسية تصرّ على أنها بدأت رحلة الإصلاح، في حين يعبِّر المجتمع الدولي عن عدم الرضى حيال تصرّفات السلطة، ويحذّرها من أن الاستمرار في النهج القائم والتغاضي عن ضرورة إجراء الإصلاحات لانقاذ الوضع، سيؤدّي إلى دخول البلاد بحلقة أزمات دائمة.
وإذا كانت الجهات الدولية تواصل تنبيه لبنان بشكل رسمي، تجزم بعض أوساطها بشكل غير رسمي، استحالة ضبط الوضع في لبنان والخروج من الأزمة، بسبب تجذّر الفساد وتورّط الساسة فيه.
الإصلاحات الهيكلية ضرورية
رغم عدم الالتزام بالاتفاق المبدئي مع صندوق النقد، أكّد المدير التنفيذي للصندوق، محمود محيي الدين، أنه “لا اتجاه لإلغاء الاتفاق الموقع مع لبنان”، وذلك خلال لقائه رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، اليوم الجمعة.
وهذا الموقف ليس مفاجئاً، إذ أن الصندوق لا ينفض يده من الاتفاق، بل يضع شروطاً أو متطلبات، وما على لبنان سوى تطبيقها لتوقيع الاتفاق النهائي بعد موافقة المجلس التنفيذي للصندوق، ثم الحصول على 3 مليار دولار كمساعدات مالية للخروج من الأزمة.
لكن تطمينات الصندوق حول عدم إلغاء الاتفاق، لا تعني أن الأمور تسير بنجاح. فما قامت به الحكومة اللبنانية من إجراءات كإقرار موازنة العام 2024 ضمن المهل الدستورية، وتقديم بعض الإصلاحات في قانون السرية المصرفية واستقرار سعر صرف الليرة في الفترة الراهنة، ليس كافياً. إذ تؤكّد بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان وسفارات الدول الأعضاء الممثلة في بيروت، في بيان اليوم الجمعة، أنه “للأسف، لم يتم تحقيق سوى تقدُّم محدود”. علماً أن هذا التقدّم يؤكّد أن “الحلول ممكنة عندما تتوافر الإرادة”.
ولذلك، فإن الإصلاحات الهيكلية ضرورية بنظر البعثة “لتجنيب لبنان الوقوع في شرك حلقة دائمة من الأزمات”. وتستند الإصلاحات المطلوبة إلى خمس ركائز حدّدها الاتفاق مع الصندوق، هي: 1- إعادة هيكلة القطاع المالي لكي تستعيد البنوك مقومات الاستمرار وقدرتها على تخصيص الموارد بكفاءة لدعم التعافي. 2- تنفيذ إصلاحات مالية تضمن، مع إعادة الهيكلة المقترحة للدين العام الخارجي، بقاء الدين في حدود مستدامة وخلق حيّز للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي وإعادة الإعمار والبنية التحتية. 3- إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيما قطاع الطاقة، لتقديم خدمات ذات جودة دون استنزاف الموارد العامة. 4- تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بغية تدعيم الشفافية والمساءلة، بما في ذلك عن طريق تحديث الإطار القانوني لمصرف لبنان وترتيبات الحوكمة والمساءلة. 5- إقامة نظام للنقد والصرف يتّسم بالموثوقية والشفافية.
الإصلاح من الداخل
يرتبط تنفيذ الإصلاحات بقرار واضح من السلطة السياسية المناط بها التنفيذ. ولهذا، أشارت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى أنه “ثمة حاجة إلى قيادة حاسمة. ولا يمكن للاستجابات لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي يمر فيها لبنان إلا أن تأتي من داخله”.
ومع أن “وقت العمل هو دوماً الآن”، لم تستجب السلطة بعد. وهذا يحيلنا إلى تجارب سابقة أعلن فيها مسؤولون في المنظّمات الدولية، بشكل مباشر أو غير مباشر، عدم ثقتهم بالسلطة اللبنانية.
فالمديرة العامة لصندوق النقد كريستالينا جورجييفا، أوضحت في أكتوبر 2022، أن الصندوق “بحاجة إلى التزام واضح على المستوى السياسي باستقرار لبنان. ولا يمكن إيجاد حل إلا إذا وضع اللاعبون السياسيون انقساماتهم جانباً، ووضعوا أنفسهم في خدمة الشعب اللبناني الذي لا يستحق أقل من ذلك”.
وأبعد من ذلك، ذَهَبَت مصادر في البنك الدولي أعمق، في انتقادها للسلطة السياسية. ففي حين كانت فرنسا تتحضَّر لتنظيم مؤتمر “سيدر” في العام 2018، أو ما عُرِفَ أيضاً بمؤتمر باريس 4، جرى تسريب تسجيل صوتي منسوب إلى أحد المسؤولين في البنك الدولي، يقول بأن هناك “صعوبة بإعطاء الثقة للدولة اللبنانية كما أعطيناها ثقتنا في مؤتمرات باريس 1،2،3”. أما تغيير إسم المؤتمر إلى سيدر بدل باريس4 “معناه أننا فشلنا في المؤتمرات الثلاثة السابقة”. واستغرب المسؤول حينها سبب عدم إجراء لبنان إصلاحات إدارية “بدلاً من ترجي فرنسا لإعطاء لبنان أموالاً”.
ومع ذلك، أقرَّ المؤتمر في أبريل 2018، حزمة مالية بنحو 11 مليار دولار، بين هبات وقروض، تعطى للبنان بعد تنفيذه إصلاحات هي بجوهرها المطلوبة اليوم من صندوق النقد. إلاّ أن السلطة السياسية لم تنفِّذ الإصلاحات، فكان لبنان على موعد مع انفجار الأزمة بعد نحو عام ونصف من ذلك المؤتمر.
في العام 2018 كانت الحزمة المالية المقَرَّة، أكثر من كافية لإعادة تنشيط الاقتصاد، لكن الإصلاحات المطلوبة لم تُنَفَّذ لأن تنفيذها يعني تضييق باب واسع من أبواب الهدر والفساد الذي تستفيد منه السلطة السياسية. فالبنك الدولي طلب إصلاح قطاع الكهرباء وتسليم الملف للقطاع الخاص، كما تعديل نظام التقاعد الذي سيؤدي إلى تقليص حجم الإنفاق على التقاعد في القطاع العام. فضلاً عن إصلاح القطاع العام وضبط الرواتب والأجور. وهذا البند أساسي لضبط الهدر إذ أن القطاع العام متضخِّم جداً قياساً لحجم الاقتصاد، وتستمر السلطة في زيادة حجم التوظيف فيه رغم إقرارها في العام 2017 قانون وقف التوظيف في القطاع العام. إلاّ أن التوظيف السياسي في القطاع، يسمح للسلطة في شراء الأصوات الانتخابية، عبر المال العام.
وعليه، ووفق التجربة السابقة والحالية، لا يستبشر المجتمع الدولي خيراً في المستقبل القريب. ولذلك، فإن لبنان على موعد من استفحال أزمته وإعادة انفجار الوضع، حتى وإن بدت بعض بوادر الاستقرار، ومنها ما يتعلّق بسعر صرف الليرة. فهذا الاستقرار وهمي، سيّما وأن الاقتصاد بات مدولراً. كما أن أرقاماً كبيرة من نفقات الدولة وُضِعَت خارج موازنة 2024 لكي تبدو مالية الدولة متوازنة أكثر.