يُحكى عن مقاهي باريس بشيء من الرومانسية أحياناً، وبالكثير من التبجيل بالثقافة الرصينة في أحيان أخرى. لم تكن تلك المقاهي دوماً ملتقى للعشاق، ولا المكان الذي تُكتب فيه الأفكار العظيمة، إنما كانت، أيضاً، مرتعاً لأهل العبث.
بعد الدمار المهول الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى، جلس الشعراء والأدباء الفرنسيون في ما تبقى من تلك المقاهي المتهالكة. حاولوا كتابة الشعر والروايات، لكن المصائب نادراً ما تُثمر أدباً مهماً. أحياناً، يتملّك الحزن شعور الناس، يليه شعور بفقدان الجدوى من الحياة، فتكون المرحلة الأخيرة؛ العبثية. راح الشعراء يقصّون الأوراق في أوائل العشرينات من القرن الماضي في مقاهي العاصمة الفرنسية، ويكتبون على كل ورقة كلمة ما، ثم يضعونها في صندوق خشبي ويتناوبون على سحبها بالتوالي، ليعودوا ويدوّنوا تلك الكلمات بشكل متتابع كما سُحبت، ثم ينشرونها في المجلات والصحف الأدبية.
بعد مئة عام، يعيش معظم العالم في ظلال العبثية، فيما أكثرها تطرفاً هي عبثية حرب سوريا وما تشهده من غياب للمعنى. فبدل الأوراق المسحوبة من الصندوق لتكوّن “شعراً” رديئاً، يُقتل كل يوم عشرات أو مئات ليشكّلوا مرثية حزينة. يأتي الموت أحياناً بالقرعة، فيَخطف من يريد دون اكتراث. الموت عبثي أيضاً، وليس البشر وحدهم عبثيون على جميع الأحوال.
عام 2011، لم يكن هناك من عبثية عند السوري. الثائر، المراقب، المدافع عن السلطة أو الباحث عن فرصة… كلهم كانوا حالمون أو واقعيون. البعض ناضل واستشهد، والبعض الآخر استفاد واغتنى… لكن الجميع لعب دوراً ما. اليوم تغيّر الوضع، حيث انزوى كُثر عن متابعة الطريق في هذه المتاهة العبثية.
تسلل شعور اللاجدوى إلى قلوب السوريين، فأصبحوا ينظرون إلى كل يوم جديد كأنه آخر أيامهم. فقدوا الأمل في مستقبل أفضل، وباتوا يتعاملون مع الحياة كأنها عبء ثقيل لا فائدة من تحمله. فقد السوريون ومن تبقى من مكترث لأخبارهم المعنى الحقيقي من وراء حربهم. ما عاد هناك خير وشر واضح، ولا فضيلة أو رذيلة واضحة. بات كل شيء مباح ومتشابه مع بعضه البعض.
ما الفرق مثلاً بين “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على جزء من التراب السوري وفصيل آخر يحمل نفس أفكاره؟ ما الفرق العميق بين سيطرة فصائل موالية لإيران على دير الزور، شرق سوريا، وفصائل موالية لتركيا على عفرين في شمالها؟
والمتابع للحرب السورية بجميع أشكالها وقصصها وسرياليتها، غالباً ما ينتابه اليأس أيضاً. ربما، يمكن للسوري الساكن في بلاده فعل شيء ما أو إحداث فرق، حتى وإن كان هذا الأمر نادر الحدوث. لكن يبقى من يتابع أخبار سوريا من خارجها، مسكيناً لا قدرة له على شيء سوى متابعة أخبار الموت والدمار والعبث المستمر على شاشة جوّاله.
لو كان ألبير كامو سورياً، لوجد ضالته في حرب بلاده. لكان أبرز أديب عبثي، كتب عشرات الروايات عن عبثية الحرب السورية ووصفها بكل ما يملك من كلمات قاسية ومؤثرة. لوصف مشاعر اليأس والألم التي يعيشها السوريون، ولحثهم على البحث عن معنى لحياتهم في خضم هذا العبث، أو ربما كان أخبرهم عن أسطورة “سيزيف” ومعاناته الأبدية.
في الواقع، ربما كان هناك بعض الـ”سيزيفيون” السوريون في السنوات الأخيرة. ولكن الآن، لم يعد هناك من يحمل الصخرة إلى رأس الجبل ليعود ويحملها مراراً بعد أن يدحرجها الإله “زوس” إلى الأسفل كل مرة. الكل استسلموا للأمر الواقع، رموا الصخرة وجلسوا يتفرجون على “آلهة” الفصائل المسلحة تقاتل بعضها البعض.
في هذه الأزمة الإنسانية العميقة، ينغمس المتابعون من بعيد في بحر من اليأس والعجز المشابه لمن بقوا في سوريا. قد يتساءل البعض، ماذا يمكن للشخص العادي أن يفعل؟ الحقيقة المرة أن الواقع يبدو معقداً بشكل لا يُصدق، ولكن، حسبما يُقال، حتى أصغر الأفعال يمكن أن تصنع فارقاً. على العموم، إيقاف الحرب العبثية لا يكون إلا بإيجاد جدوى لتحل مكانها، وهذه مهمة السوريين وحدهم على جميع الأحوال.