كشفت النتائج النهائية للانتخابات المحلية والبلدية التركية، قبل أيام، عن خسارة كبيرة لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، وُصِفت بأنها “الهزيمة الأقسى” التي يتلقاها منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، حيث حلّ ثانياً خلف حزب “الشعب الجمهوري”، أكبر أحزاب المعارضة، والذي عاد ليتصدّر المشهد الانتخابي في تركيا لأول مرّة منذ عقود، في الوقت الذي حافظ فيه حزب “المساواة وديموقراطية الشعوب” المؤيد للأكراد على البلديات الكردية جنوب وجنوب شرقي البلاد.
وفق البيانات ولغة الأرقام، خسر حزب أردوغان 15 من أصل 39 محافظة كانت تحت سيطرته منذ انتخابات عام 2019، في مقابل ارتفاع عدد المحافظات التي يسيطر عليها حزب الشعب الجمهوري من 20 إلى 36 محافظة، بعد أن تراجعت نسبة المصوتين للعدالة والتنمية من 44% في الانتخابات المحلية السابقة إلى 35% في انتخابات 2024، وذلك بالتوازي مع زيادة نسبة أصوات “الشعب الجمهوري” المعارض من 30% إلى ما يزيد قليلاً عن 37% من الأصوات. ولعلّ المؤشّر الأهمّ على تفوّق الأخير، أنّ المحافظات التي فاز بها تضمّ كبريات مدن تركيا، بدءاً من إسطنبول مروراً بإزمير ومرسين وأضنة، وحتى العاصمة أنقرة.
محللون أتراك وغيرهم، ممن يميلون إلى أردوغان وحزبه، قلّلوا من أهمية انتصار المعارضة، إذ فسّروا تفوّقها لا بنموّ شعبية أحزابها، وإنما بسبب “تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات”، إذ بلغت 78% مقارنةً مع 84.6% عام 2019، ورأوا أنه “أحد العوامل المهمة التي أثرت على نتائج الانتخابات”، لأنّ “أكبر عدد من الناخبين الذين لم يذهبوا إلى الصناديق الانتخابية كانوا من ناخبي حزب العدالة والتنمية”. وذهب بعضهم إلى القول، إنّ ما جرى هو ضربٌ من “التصويت العقابي” مارسه أنصار الحكومة أنفسهم، بسبب فشلها في تحقيق وعودها، في ظلّ الصعوبات الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، وليس بدافع التأييد الفعلي للمعارضة وبرامجها. لكن، حتى إذا كانت المسألة على هذا النحو، فليس من دليل على الإخفاق السياسي لأي حزب أبلغ من أن تتراجع شعبيته في أوساط ناخبيه ومناصريه الأساسيين، أو ما يسمى “البيئة الحاضنة”، فضلاً عن فشله في كسب ناخبين جدد.
ما من شكّ أن تطورات السياسة التركية ترخي بظلالها على ملايين السوريين فيها، إلى جانب تأثيرها على الملف السوري بالمجمل. غير أنّه من السابق لأوانه التخوّف من عواقب سلبية على اللاجئين السوريين إثر الانتخابات الأخيرة، استناداً إلى الكلام المكرر عن موقف بعض أحزاب المعارضة التركية منهم، وتبرئة حكومة أردوغان من المسؤولية عن انتشار خطاب الكراهية والتحريض عليهم. فالانتهاكات والجرائم الواقعة ضدهم، إنما تحصل تحت أعين حكومة “العدالة والتنمية” التي لم تحرّك ساكناً لحمايتهم والوفاء بالتزاماتها القانونية والأخلاقية، بل إنّ أجهزتها هي من تقوم بترحيلهم إلى سوريا عنوةّ، تحت بند “العودة الطوعية”، ما يعني أنهم في وضع لا يُحسدون عليه، ولا يبدو أنّ الانتخابات ستغيّر من الحال شيئاً.
على الرغم من كونها انتخابات محلية، وليست بأهمية الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، إلا أنها قدّمت دليلاً إضافياً على مناهضة فئات واسعة من الشعب التركي لحزب السلطة وزعيمه، وذلك بعد كلّ محاولات الرئيس أردوغان إحكامَ قبضته على البلاد، وما آلت إليه أوضاع الحريات وحقوق الإنسان من تردٍّ في عهده، لا سيما بعدما استغلّ مأثرة الأتراك في رفض “الانقلاب” المزعوم، صيف عام 2016 وتمسّكهم بالنظام الديمقراطي. حينها، غيّر “الانقلاب الفاشل” موازين القوى في السياسة التركية، وأتاح لأردوغان إعادة تشكيل النظام السياسي بما يلائم مشروعه السلطوي، فتخلّص من خصومه ومعارضيه، وفرض سيطرة شبه مطلقة على وسائل الإعلام، لتغدو أجهزة دعائية تخدم توجهاته. وجاءت النقلة الكبرى في سعيه لتعزيز سلطاته الفردية بتمرير “تعديلات دستورية”، في استفتاء أجري بعد أشهر، شهدت البلاد فيها اشتداد القبضة الأمنية، وانتهاكات للحريات، واعتقالات بالجملة للمعارضين، بذريعة محاولة الانقلاب الفاشلة. مع ذلك، ورغم التضييق على المعارضة، وحملات توجيه الرأي العام، ورصد حالات تلاعب وتزوير رفضت لجنة الانتخابات الطعون المقدّمة في شأنها قبل أن تنظر فيها، جاء إقرار التعديلات بفارق طفيف (51% نعم، مقابل 49% لا). والمشكلة ليست في النظام الرئاسي بذاته، فهناك أنظمة ديمقراطية تتبنّاه، لكنّ تعديلات أردوغان خوّلته صلاحيات تنفيذية وتشريعية، ووصاية على القضاء، بما يقوّض النظام الديمقراطي.
من المنطقي أن يكون من أسباب هزيمة حزب السلطة الأزمة الاقتصادية المستمرة، وانخفاض سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأميركي، إلى جانب شيوع الفساد في مختلف مستويات الإدارة وقطاعات الاقتصاد، وعدم القدرة على احتواء تداعيات زلزال العام الماضي، حيث مازال مئات آلاف الأشخاص يعيشون في مرافق إسكان مؤقتة، بانتظار المنازل التي وعدتهم الحكومة بتأمينها. إلا أن هذا لا ينفي الدوافع السياسية الكامنة خلف نتائج الانتخابات الأخيرة، بمعنى أنها ربما تشكّل خطوة على طريق تعافي الديمقراطية التركية في مواجهة جنوح النظام نحو التسلط والفردية. فإنّ هزيمة سياسية بهذا الحجم، لحزب زعيمٍ قويّ أمضى ما ينوف عن عشرين عاماً في الحكم، أكبر من أن تُقاس بمستوى بلديات المدن والمحافظات فقط، ومن شأنها إعطاء مؤشر عن موقف الشارع من مشروع الحزب، وزعيمه نفسه.