من الصعب أن نجد دالاً لغوياً تربطه بمدلوله علاقة قدرية. ففي ذاتها، الكلمات صمّاء، صامتة، لا تنطق بمدلولاتها إلا بما يُراد منها أن تنطقه. اللغة ليست كائناً حياديّاً. إنها اجتماعية بمقدار تعبيرها عن الاجتماع البشري، وسلطوية بمقدار تغلغلها في خطاب التسلط، أو بمقدار تحولها أداة له. لا يمكن تخيل لغة ما بريئة. فاحتكارها من أيّ طرف، هو إعادة إنتاج لهذه السّلطة بتموضعات شتّى: سياسيّة، اجتماعيّة، دينيّة. الكهنوت مثلاً، حينما يحتكر لغة المقدّس ويعلنها مطلقة عصيّة على البشر، فإنّه يعيد إنتاج سلطته هو من خلالها باستمرار، الأمر الذي يؤدّي إلى احتكار التأويل، وحصره في دائرة المطلق، هذه الدائرة التي سيُجسّد معانيها/ دلالاتها كهنة المقدس وحراسه من خلال اللغة. وقل الأمرَ نفسَه على أصحاب السلطة السياسيّة التوتاليتاريّة، كما هو الأمر في حال نظام الأسد. وبهذا، ليست العلاقة بين الدّال والمدلول اعتباطيّة فقط، كما تشدد بعض اتجاهات الهرمونوطيقا، بقدر ما هي كذلك علاقة مخاتلة، متوترة، ملتبسة؛ علاقة تخضع للسّياق التاريخيّ المعنيّ، أو قل للخطاب الذي يسيطر عليها وللخلفيات الإيديولوجيّة المتحكّمة بأطراف الصّراع.
العلمانيّة كـ اصطلاح ودالّ معرفيّ وحداثيّ كوني لهو من الأمثلة المهمة على هذا. فإن كان الدال قد استقر في مداخل القواميس العربية، إلا أن مدلوله من أعقد ما يمكن التواضع عليه. وبعيداً عن الاتجاهات الفكرية الهائلة المختلفة فيه، فإنه يمكن الاقتصار هنا على بعدين اثنين (في المثال السوري) قد سيطرا على ما أريدَ من المدلول أن يدل عليه، الأمر الذي أدى لأن تفقد العلمانية بعدها التاريخي الحداثي: البعد الأول السلط السياسية، التي سيطرت على المفهوم باستخدامه وسيلة قمع عسكرية وسياسية، والثاني السلط الكهنوتية، التي اتخذت من العلمانية هدفاً للتهجم عليها. وإن كان يبدو أن بين هذين الاتجاهين اختلافاً عميقاً في النظر إلى اصطلاح العلمانية، إلا أنهما يتفقان في الخطوط العريضة على نقطتين: أولاً، السلطتان اشتركتا في التغييب «الجذري» لمفهوم الدّولة، كـ اجتماع وكيان سياسي، واختصار العلاقة بين الدولة والدين، كمتقابلين: «مقدّس ومدنّس»، لكن خارج حدود مفهومة الدولة.
الاشتراك الثاني، لقد أسّسا سلطةً من وراء تشريع أو تسليط المدلول الذي أُريد: فمن جهة، اختُصِرت العلمانيّة بالإلحاد (عند الكهنوت)؛ ومن جهة أخرى، تساوت بالاستبداد (عند السلطة السياسيّة)، ما أسّس تالياً لـ «سلطة» ضمنيّة لمفهوم العلمانيّة، من خلال سلطة الكهنوت والاستبداد، واستطاع هذا الفهم التغلغلَ والسّيطرة على الوعي الشعبيّ المغلق سلفاً بذينك السلطتين.
ويشار إلى أنّ كثيراً من المجتمعات على المدى الطّويل حينما تُصابُ باليأس جرّاء أنظمتها التوتاليتاريّة المغلقة لا تلجأ في ثقافتها وسلوكها وأفعالها إلى ما يناقض انغلاق تلك الأنظمة، بل إلى انغلاقات أخرى تشعر فيها المجتمعات أنها تُكْسبها الأملَ والخلاص؛ وهذه غالباً تكون في الأشكال الدينيّة الخلاصيّة. وهذه بالفعل إحدى الزوايا التي من المفترض أن نقرأ من خلالها صعود التيارات الدينيّة، في بعض البلدان العربيّة التي كان يُظن بها أنها علمانية.
ولكون أنّ تجربة تطبيق العلمانيّة في البلاد العربيّة، وتحديداً سورية، كان تطبيقها أساساً على أيادي العسكر والإيديولوجيات التوتاليتاريّة (من قوميّة وغيرها)، فقد أصبح للأسف خطاب العلمانيّة كما لو أنه خطاب الأنظمة السياسية، خطاب السلطة (= الاستبداد)، هذا الخطاب الذي ساعد هو نفسه في استشراء (وليس خلق) خطابات مناقضة لها شكلاً لا جوهراً، وتحديداً الإسلام السياسيّ، الذي تجسّد بحركات وأحزاب جمعت بين الكهنوت والسياسة في مزج غير بريء؛ فاستَثْمرت هذه الحركات الدينية المدلولاتِ التي قدّمها خطابُ السلطة. هكذا لتغدو العلمانية تساوي الاستبداد، وليغدو الإسلام السياسيّ تالياً يساوي في ذاته خطاب العدالة والحرية والقضاء على الاستبداد (أي العلمانية)، من جهة، والتخلّص من إلحاد العسكر وعلمنتهم (سوريّا البعث)، والإيديولوجيات التي تقاطعت مع هذا الإلحاد، من جهة أخرى.
وفوق هذا، كثير من الأنظمة العربيّة استطاع السّيطرة على معنى الدّين ذاته، وإعادة إنتاج هذا المعنى من خلال السيطرة ليس فقط على رجال الكهنوت ذاتهم، وإنما على خطابهم الدينيّ، لتغدو الاصطلاحات محط خواء عدمي. هكذا سيساوي الإسلامُ في السياق السوري السلطوي الذين ادعى العلمنة اصطلاح العلمانيّةَ نفسه (المفتي السوريّ السابق أحمد بدر الدين حسون، مثلاً، الذي هدد الغرب بالقيام بعمليات انتحاريّة، كان هو نفسه قد أكد للغرب أنّ: «العلمانية ليست ضد الدين، وأنا مسلم علماني»)، كما تساوى الإسلام في عهد جمال عبد الناصر بالاشتراكية، ولاحقاً أخذ يتساوى باللبرالية وحقوق الفرد في عهد السادات فصاعداً.
من هنا، ضرورة إعادة تحرير مفهوم العلمانية كليّاً بنحو معرفيّ: تحريره أولاً من السلطة «الصّنميّة» التي جسدتها أنظمة التسلط التوتاليتاري، والأشقاء لها من التيارات الدينية المسيّسة، وغيرها من الإيديولوجيات التوتاليتارية القوميّة، وثانيّاً بإعادة موضعة المفهوم باستحقاقه الحداثيّ والتاريخيّ هو، لا وفقاً لتمنيات إيديولوجيّة مسبقة، تدّعي الخصوصية الثقافيّة والدينيّة وما شابه.
العَلْمنة ليست قراراً سياسياً يُفرض من فوق، أو إجراء أوتوماتيكياً لعَلْمنة جزء من كيان الدولة دون آخر؛ إنها فعل تحديثي، عملية ثقافيّة ومعرفيّة أولاً وقبل كلّ شيء، تبدأ من قاع الهرم الاجتماعي، وانتهاء بقمته، السلطة السياسية. ما فعلته أنظمتنا ليس فقط «مسخ» المفهوم، وإنما تأسيس سلطة لهذا «المسخ»، وإعادة إنتاج لهذه السلطة في مجتمعات أغلقتها، إلا من الانفتاح على الماضي المذهّب، الماضي الذي تنتمي إليه هذه السُّلط. هل من الغريب أن تُعيد الأنظمة هذه إنتاجَ الماضي وشخوصه التاريخية بما يدعم استبدادها، واختيار بعضها أنهم كانوا اشتراكيّون! أو شخصيات مخيالية أخرى نادت بالوحدة العربيّة والقوميّة؟
لكن إذا قيل أنّ إقرار اللائيكية الفرنسية (1905) كان فعلاً سياسياً، وكذا رضوخ الكنيسة الكاثوليكية (1924) كان أيضاً سياسياً (خوفاً من تهميشها لاحقاً)، فإنه من المهم عدم إغفال أنّ إقرار اللائيكية كأمر واقع في فرنسا، لم يكن سوى عمليّة تتويج تاريخي لعَلْمنة معرفيّة استمرت قروناً من التنوير والحداثة، علْمنة لم يشتغل صانعوها من قمة الهرم السياسي، بل من قاعه، بعد إعادة «ضبط» الظاهرة الدينية معرفيّاً ونقديّاً، والأهم مأسسة هذه الظاهرة وإخضاعها لسلطة الدولة، إنها علمنة كانت تتويجاً لـالأنوار الفرنسيّة، وليس على الطريقة البعثية وغيرها.
إنّ جدّية وخطورة ما تمر به وما مرت به مجتمعاتنا السورية، تحتّم علينا الخروج، وإلى الأبد من «العَدَم» السجالي، وإدخال مفهوم العلمانيّة (وغيره من مفاهيم الحداثة) في دائرة المُفكّر فيه (وليس حصره ضمن دائرة اللامفكر فيه بين أقطاب الكهنة والسلط السياسي السياسية)، بحيث يتحول التقابل الأبدي المعاصر بين طرفي الثنائية المفاهيمية، دين/ دنيا إلى مجال أوسع، بحسب مصلحة الاجتماع السياسي أولاً وقبل كلّ شيء، بعيداً عن التنظيرات الأخلاقية وما إليه، والتخلّي عن المناهج السكولائية الستاتيكية الثقافوية المعاصرة، وذلك من خلال الاستيعاب النقدي لتاريخيته، بحيث يغدو خطابُ العَلْمنة خطاباً معرفيّاً وثقافيّاً لا ينفك عن خطاب الحداثة.