تذكر الأوديسة لهوميروس أن بينيلوبي الطرواديّة قضت عشرين سنة، تنتظر زوجها أوديسيوس ملك إيثاكا الذي غادر للمشاركة في حرب طروادة، وشاغلت طالبي الزواج والطامعين بها بحياكة فستان، كانت تخيطه نهاراً وتفك غزلها ليلاً، وعندما عاد أوديسيوس بعد عشر سنوات من الحرب وعشر أخرى من التيه، كان قد ابيّضَ شعرُها وذوى شبابها.
وفي انتظار زوال حكم فرانسيسكو فرانكو، اليمينيّ الذي انقلب على الجمهورية الإسبانيّة الثانية وأقام نظاماً ديكتاتورياً لمدة خمسة وثلاثين عاماً، لاحق خلالها الشيوعيين اعتقالاً وإعداماً، ظل شيوعيّ ملاحقٌ مختبئاً في حفرةٍ داخل منزله، ظناً أنّها أياماً معدودة ويزول بعدها حُكم الديكتاتوريّ فرانكو، لكن انتظاره طال لمدة ثلاثين عاماً. شهد خلالها تعرض زوجته للاغتصاب، ومن خلال فتحةٍ لا يتجاوز قطرها خمسة سنتيمترات، شهد أعياد ميلاد ابنه، وجنازة والده دون أن يتمكن من رثائه، لتكون نصيحته لصديق ابنه الشاب الذي سار على درب المنشورات والعمل السياسيّ، بترك كل شيٍء والزواج وإنجاب الأطفال.
في مسرحية صموئيل بيكيت، بانتظار “غودو” كان الانتحارُ شنقاً خيار البطلين فلاديمير وإستراجون اللذين فقدا الأمل، بعد انتظار طويل في أبعاد زمانيّة ضبابيّة لقدوم غودو، الشخصية المبهمة التي تدور المسرحية حولها، دون أن تحضر!
في سوريا جعل النظام السوريّ حياة السوريين تدور في فُلك الانتظار. وعشراتُ الآلاف من العائلات تنتظرُ فرداً أو أكثر، بين معتقل أو مُغيّب قسراً دون أن تعرف خبراً عنهم منذ اعتقالهم في بدايات الثورة، إذ كان الاعتقال أو التغييب السلاح الثاني بعد القتل في وجه كل من تظاهر، أو ربما بسبب خطأ أو تشابه أسماء ليس إلا، وأودى بحياة كثيرين، وإن كان بطلا بيكيت اعتادا الانتظار دون سببٍ واضح، فالعائلات السوريّة تنتظرُ أباً، زوجاً، أخاً، أختاً أو زوجة، وتُقدَر أعداد النساء في سجون المؤسسات الأمنيّة بواحدٍ وأربعين ألف امرأة، ما يعطي ألف سببٍ وسبب للانتظار.
لأكثر من عشر سنوات واظبت عائلةُ ناصر بندق على انتظاره، وهو المعتقل منذ شهر شباط/فبراير 2014، ليكتشف أخوه صدفةً في شهر فبراير المنصرم من العام الجاري، أنَ اسم أخيه مدرجٌ في قوائم المتوفين، والأكثر صدمةً أنَ تاريخ شهادة الوفاة هو الخامس من آذار/مارس من عام اعتقاله، أي بعد ستة عشر يوماً فقط من اعتقاله، ولم تُكلِف الجهات المسؤولة نفسها حتى إبلاغ عائلته بذلك.
عشر سنوات كانت بحساب ابنته إنانا ثلاثة آلاف وستمئة واثنين وخمسين يوماً، كانت كل صباح تستيقظ بأمل أن تسمع خبراً عن والدها، وتتخيل في النهار أنه قادم نحوها لكنه أيضاً لم يأتِ، وحملت به ليلاً عله يأتي في اليوم التالي، استمرت في أحلامها هذه إلى أن علمت مصيره في النهاية وتبلغت الخبر الذي حطَم كل أمانيها.
كان ناصر مُتوفى في أوراقٍ وقعها مسؤول سجنه، وشهادة الطبيب الذي ربما أجهد نفسه في ابتداع سبب الوفاة أكثر مما أجهدها في محاولة إنقاذه من الموتِ، ولعلَّ الموت في تلك السجون خلاصٌ من أساليب التعذيب. أمَا بالنسبة لعائلته فطوال العشر سنوات كان لا يزالُ حياً، وربما سيبقى كذلك، إذ ترفض عائلة بندق تقبّل التعازي بفقيدها قبل معرفة تفاصيل وفاته، والمطالبة بمعرفة مكان دفن جسده، وهذا حقٌ بسيطٌ وطبيعيّ. وما بين وفاته على الأوراق وحياته في نظر عائلته، يبقى مصير ناصر معلقاً ما بين الحياة والموت، حالُه كحال كثيرين من المعتقلين السوريين الذين لا يُعرف عددهم.
سبعة عشر يوماً غيرَتْ حالة ناصر من حيٍ إلى متوفى، وأنهت آمالاً ممزوجةً بمرارةِ الانتظار لزوجته وابنته وابنه، لكنها بقيت آمالاً قبل الفجيعة، وواظبت عائلته في أحلك الأوقات على الانتظار في الأعياد والأفراح والأحزان، كما جميع أحباء المعتقلين.
تلك السبعة عشر يوماً كانت ربما بمثابة عملٍ شاق لمن أشرف على التعذيب من السجانين، عملٌ غايته التخلص من أكبر عددٍ ممكن من أصحاب الأرقام المسجلة على الجباه، دون أدنى اكتراثٍ لمعرفة التفاصيل، ولو تمهلوا قليلاً لأخبرتهم ذاكرةُ الجسد بالكثير والكثير عن صاحبه. لكن هكذا تعيث الأنظمة الديكتاتوريّة بحياةِ الأفراد، وتسرق من المعتقلين سنوات الفرح وشباب الزوجات وأمنيات الأمهات وترصها بين براثن الانتظار، وتحوّل آخرين إلى آلاتٍ لا يفكرون ولا يشعرون متى وكيف تحولوا إلى مجرمين، لم يعد إنزالُ الموتِ بالآخرين لديهم عملاً شاقاً!
لا يزالُ ملف المعتقلين والمفقودين في سوريا معلقاً ولم يطرأ عليه أيّ تقدم، وهناك أكثر من مئة ألف شخص ما بين معتقل ومفقود أو مغيّب قسراً، رغم حملات عائلاتهم، ورغم الجهود الدوليّة التي بُذلت فيه، فلا يزال الاعتقال حتى اليوم وسيلة يتبعها النظام السوريّ، رغم أنّه لم يتبقَ داخل البلاد إلاَ عدد قليل من المواطنين. وتقول حكوماتٌ عديدة إنَ ملف المعتقلين صعب ويحتاج إلى فكّ الألغاز، ولكن هل الملفاتُ الأخرى أكثر سهولة وتحرزُ تقدماً!؟
القانون الدوليّ لحقوق الإنسان يضمن حق الحياة والتعبير وتقرير المصير، ولكن في سوريا التي فُقد فيها حق الحياة، باتت أدنى المطالب أن ينعم الناس بحق إعلان الموتِ، فجميع مَن زُجّ بهم في المعتقلات وقضوا تحت التعذيب لم تُبلغ عائلاتهم بذلك، ولم يَرَوا حتى أجسادهم.
في ملحمة أوديسة عاد أوديسيوس إلى عائلته، وانتهى حكم فرانكو وحققت إسبانيا الانتقال الديموقراطيّ، فيما ما زال السوريون على ذمة انتظار غير معلوم آجله ليحضر غودو.