خاص ـ باسكال صوما/ بيروت
بعيداً من قصص القصور والمقاهي الفارهة وكعوب “الستيلتو” العالية التي تستيقظ مع استيقاظ السيدات، كما لو أن العالم عرض أزياء متواصل، بعيداً من التنميق والتسطيح، نزل صانعو مسلسل “ولاد بديعة” إلى الأرض، توغلوا عميقاً في أنفاق الفقر والبؤس والناس المنسيين، وخرجوا بقصة مثقلة بالحزن والثأر والدم والجراح. علماً أن المسلسل لا يمكن اختصار بطولته بشخص، ذلك أنه يروي مجموعة قصص لشخصيات متنوعة، لا يمكن اعتبارها ثانوية، لشدة عمقها وتأثيرها في المُشاهد وفي مشهد المسلسل عموماً.
يدور المسلسل في زمنين مختلفين، في منطقة الدبّاغات بدمشق. وتبدأ مع عارف الدباغ (فادي صبيح) الذي يرزق بمولود جديد هو مختار، ويلتقي في اليوم نفسه بامرأة لا تستطيع الكلام (إمارات رزق) ومعها طفلة شقراء، يتبين في النهاية أنها ليست ابنتها.
يقرر بعدها الدباغ الاعتناء بالسيدة والطفلة وينجب في ما بعد توأمين غير شرعيين من بديعة، هما ياسين وشاهين، لتبدأ قصة تنافس وثأر بين أولاد بديعة ومختار، ابن الدباغ الشرعي، وتتواصل حلقات الدم والإجرام بعد سنوات، حين يكبر الأطفال وتُقتل بديعة.
المسلسل من دون شك عنيف وشديد القسوة، وهو أمر لا غبار عليه، حتى إن بعض مشاهد الدم تبدو بلا مسوغ درامي واضح، ويتمنى المشاهد لو أنه لم يُرغم على مشاهدتها أو قد يتمنى نسيانها على الأقل. لكن اللافت أن العنف يتولد في أكثر من مشهدية، من جدلية القوة والضعف بين أولاد بديعة والشخصيات التي تحوم حولهم. وربما كان أوضح تعبير عن هذا التشابك في المشاعر في ثيمة العنف تحديداً، مشهد سلافة معمار (سكر) في منتصف شجار مع أخويها، وهي تخلع كندرتها وتقول لأحدهما: “إذا مفكرني نضفت وصرت سينييه (signé)… بلحظة برجع سكر بنت الدباغات”، تقول ذلك وهي تهدد أخاها بالعصا. إنه الربط بين الماضي والحاضر، بين العنف والجرح، وتقديم الشخصية كمسار، لا كوجه مسطح بلا تاريخ أو قصة، يصعب فهم عقدها النفسية وانفعالاتها وأخطائها وخياراتها.
أما القطط التي يذبحهم مختار انتقاماً من إخوته خلال طفولتهم، فلا يمكن اعتبارهم أقل من شخصيات أساسية في العمل، شديدة الرمزية والأبعاد، إنهم بالفعل من أبطال المسلسل، ذلك أن مشهد شنقهم يمتد إلى سنوات طويلة، بعدما كبر الإخوة وكبر الحقد في قلب مختار وقرر الانتقام من إخوته بعدما قتل قطتهم أيام الطفولة.
المسلسل الذي يُعرض على “إم بي سي دراما” ومنصة “شاهد”، هو من تأليف علي وجيه ويامن حجلي، وإخراج رشا شربتجي، وبطولة كل من سلافة معمار، وسامر إسماعيل، ومحمود نصر، وفادي صبيح، وروزينا لاذقاني، وتيسير إدريس. وفي هذه الخلطة المميّزة والمنوّعة بين النجوم والنص والإخراج، يمكن اعتبار العمل صفعةً من صفعات الواقع القاسي، وأيضاً درساً مهماً في التمثيل، فالأداء مبهر وجاذب، برغم أن كثرة الدماء لا سيما في الحلقات الأولى قد تكون منفّرة، كما قد تكون لهؤلاء الباحثين عن سهرة رمضانية هادئة مع مسلسل لطيف لا يوجع القلب، ولا يوتّر الأعصاب.
بعد هجمة القصص غير المنطقية والمسلسلات المركبة كما لو كانت puzzle، يأتي “ولاد بديعة” بوصفه مسلسلاً سورياً بحتاً من حيث القصة والحبكة والتصوير. وربما يشرح القلب أن يشاهد المرء مسلسلاً لا أخطاء في “الكاستينغ” فيه، وأن يستمتع وهو يراقب الشخصية وانفعالاتها وتغيراتها، ويحاول فهمها، بعيداً من الشر المطلق أو الخير السرمدي. وبذلك نجح النص في تقديم شخصيات حقيقية، تشبه البشر العاديين المحكومين بتلك اللعبة المتواصلة بين الحدّين، الخير والشر، الهشاشة والثأر، الوحدة والسلطة.
برشاقة، خلعت سلافة معمار عن وجهها ملامح “الدكتورة أسيل” وشخصيتها الأنيقة في مسلسل “الخائن”، وتفننت في لعب دور سكر في “ولاد بديعة”، وهي الفتاة التي دفعتها ظروفها إلى أصعب الخيارات حيث عملت راقصة في “الكاباريه” واضطرت إلى تحمل الاستغلال والإهانة، حتى من أخويها، أقرب الأشخاص إليها. والشخصية التي لا تتوقف عن مجابهة المواقف الصعبة بجملة “ما بيشغلني” لتظهر لا مبالاة واضحة تجاه كل من يحاول إزعاجها، هي في الحقيقة شخصية شديدة الهشاشة تتعرض للسرقة من زوجها الذي يرفض الإنجاب منها، ثم تنتهي قصة الحب تلك بقتل الزوج (غزوان الصفدي).
وبالرشاقة ذاتها خرج محمود نصر من مسلسل “كريستال” ليدخل في “ولاد بديعة” بشخصية مختار المركبة والصعبة، وهو من أكثر الشخصيات التي تحمل حقداً وجراحاً في قلبها، وقد أجاد بالفعل لعب دور المريض النفسي، حتى جعلنا نتعاطف معه حيناً ونسأم منه حيناً آخر.
مسلسل “ولاد بديعة”، برغم كثرة العنف والدم وبطء حلقاته الأولى، إلا أنه يبقى درساً في التمثيل والقسوة!