خاص ـ دمشق
يراقب عبد القادر الحسن (30 عاماً) موسمه هذا العام، ويأمل بأن يعوضه بعضاً من خسائره في الموسم الصيفي الماضي بعد أن خسر مبلغاً كبيراً من المال من بذار الذرة الصفراء حتى حصادها.
حين حصد محصول الذرة الصفراء الماضي لم يجنِ الحسن، حتى نصف التكاليف التي وضعها، على حد قوله، ويعلل أن السبب قلة مياه الري، التي حالت دون إنجاح الموسم، وكانت تحتاج الذرة الصفراء إلى سبع ريات، لم يستطع أن يعطي منها سوى أربع.
تسببت قلة مياه الري بفشل مواسم زراعية في الرقة، نتيجة انخفاض منسوب نهر الفرات بعد حبس تركيا لمياه النهر الذي تشارك فيه سوريا والعراق بموجب اتفاقية وُقعت بين الدول الثلاث في العام 1987، وسُجلت الاتفاقية التي تنص على أن تعبر من مياه النهر 500 متر مكعب من الأراضي التركية كحصة لسوريا وتركيا، لدى الأمم المتحدة.
ينظر الحسن إلى سنابل القمح المزروعة بأرضه البالغة 15 دونماً، وكله أمل بنجاح الموسم خاصة في ظل وفرة الهطولات المطرية هذا العام، ويضع الاحتمال الأكبر بأنه لن يزرع الموسم الصيفي كي لا يتعرض لذات الخسارة.
وفي منتصف الموسم الصيفي الماضي، اضطر المزارع الذي يسكن في منطقة الكسرات جنوب مدينة الرقة والتي تعرف بغوطة الرقة، لأن يحفر بئراً سطحياً لكنه دفع مبلغاً زائداً نتيجة انخفاض منسوب المياه الجوفية.
انحسار نهر الفرات أدى لانخفاض بمنسوب المياه الجوفية على ضفتي الفرات في الرقة، ما انعكس على التكاليف التي ارتفعت بالتناسب العكسي من حيث أجرة الحفر، وتكاليف ري الأراضي بواسطة محركات الديزل، والتي تتطلب كميات إضافية في ظل ارتفاع أسعارها والذي فاق 5 آلاف ليرة للتر الواحد حينها.
يقول الحسن “الموسم خسارة”، ويضيف إن الموسم الشتوي يزرعونه لتوفر مياه الأمطار، ويعتمدون على محركات الديزل لري أراضيهم، في حين لا تصلهم مياه الري سوى لرية واحدة أو ريتين في الحد الأقصى، نتيجة تقليل ساعات تشغيل محطات الضخ، والتي تأثرت بانخفاض منسوب الفرات.
الماء هو الحياة
وتشكّل المياه حاجة أساسية يجهَد السوريون للحصول عليها بطريقة آمنة ونظيفة. وتضاءلت فرصهم بتحقيق ذلك مع تقدّم سنوات الحرب في البلاد وتأثيرها على مصادر المياه والبنى التحتية المتعلّقة بها. فضلاً عن الدور التركي الكبير في تقليص حصة سوريا من المياه، رغم نفي تركيا التلاعب بالكميات المفرج عنها نحو سوريا عبر نهر الفرات.
ومنذ شباط/ فبراير 2020، تستمر تركيا بحبس مياه نهر الفرات، ما أدى لتدني المنسوب إلى مستويات قياسية، مخلفاً أزمة بيئية وإنسانية وعجز في السدود.
وفرضت تركيا قيوداً غير معلنة على تدفّق مياه الفرات نحو سوريا حتى وصلت التدفقات إلى نحو 200 متر مكعب بالثانية سنوياً، علماً أن الاتفاقية الموقّعة بين البلدين في العام 1987، تنصّ على مرور 500 متر مكعب بالثانية سنوياً.
وتتحكّم تركيا أيضاً بأكثر من 90 بالمئة من تدفقات نهر الفرات نحو سوريا، وبنحو 44 بالمئة من تدفقات نهر دجلة، ما يعني أن لتركيا نفوذ كبير في هذا المجال، وتستعمله لأغراض سياسية.
ووصلت مناسيب بحيرتي الفرات وتشرين إلى مستوى يقارب “الميت” الذي لا يمكن فيه تشغيل السدود، إذ إن المنسوب انخفض بـ 6 أمتار عمودية، وسط توقعات خلال الذروة بخروج كامل للسدود.
الأكثر عرضة للجفاف
يشير واقع المياه في سوريا إلى أنها أكثر البلاد عرضة للجفاف في منطقة بحر المتوسّط، نتيجة تحوُّل الحصول على مياه صالحة للشرب إلى تحدٍّ بالنسبة لملايين السوريين، منذ العام 2022 حيث وثِّقَ ذلك عبر المؤشّر العالمي لمخاطر الصراع.
وتتقلّص احتمالات حصول السوريين على مياه نظيفة وبكميات كافية، في ظل تراجع منسوب المياه في الكثير من البحيرات على مساحة البلاد. وعلى سبيل المثال، تراجع منسوب المياه في مدينة الدانا شمالي إدلب بمعدّل 13 متراً. وكان منسوب البحيرات في الجنوب السوري قد بدأ بالانحسار منذ صيف العام 2017. وكذلك تراجعت كميات المياه المتوفّرة في شمال غربي البلاد.
ويلعب العامل المناخي دوراً كبيراً في تقليص حجم توفّر المياه في البحيرات، الأمر الذي زاد من احتمالات حصول الجفاف. فبحسب دراسة لشبكة “وورلد ويذر أتريبيوشن” التي تُعنى بتحليل الرابط بين العوامل الجوية والتغير المناخي، فإن احتمالات حدوث الجفاف بفعل التغيّر المناخي، زاد في سوريا بما يفوق الـ25 مرة”. وأدّى ارتفاع معدل التبخّر السطحي إلى خسارة 2.2 مليار متر مكعب من مخزون المياه الطبيعي.
ولا تقف مشكلة تقنين مرور المياه عند حدّ حرمان سوريا جزءاً أساسياً من حقوقها، إذ يؤدّي احتجاز المياه إلى كوارث تتعلّق بانقطاع الكهرباء وتوقّف ضخ المياه. فاعتماداً على منسوب مياه نهر الفرات، يؤمّن السدّان على النهر، سد تشرين وسد الطبقة، الكهرباء لمنطقة شمال شرقي سوريا بنسبة 90 بالمئة.
وبالتالي، فإن تقليص منسوب المياه أدّى إلى تراجع إنتاج الكهرباء للمواطنين بمعدّل 70 بالمئة، وكذلك الكهرباء لمحطات ضخ المياه. كما أن انخفاض المنسوب يهدّد الثروة السمكية ويساعد في تلويث المياه.
كما أن تغيير منسوب المياه يجرّ معه انعكاسات على الخريطة الزراعية للمنطقة. فنسبة الريّ تراجعت، ما أدّى إلى ضعف المزروعات وتحوُّل بعض المزارعين إلى زراعة أنواع تحتاج إلى مياه أقل، الأمر الذي أضرَّ بمداخيل العائلات.
والنتائج السلبية لتقليص حجم التدفقات المائية، دفعت المنظمات الدولية للتحذير، قبل نحو 3 سنوات، من كارثة إنسانية في شمالي سوريا وشمال شرقها، أي في المناطق التي تستفيد بشكل مباشر من مياه النهر.
وأمام التغيير الملموس في حجم المياه وانعكاساته على السكان والبيئة، تنفي تركيا تقليص منسوب المياه الذاهب نحو سوريا، وتعزو سبب تراجع المنسوب، إلى التغيُّر المناخي فقط.
عامل الحرب
بالإضافة إلى العامل المناخي والضغط التركي، تأتي العوامل الداخلية لتزيد الضغط. فالحرب في سوريا تسبّبت بتدمير جزء كبير من البنية التحتية لشبكة المياه. فقبل العام 2011 كان باستطاعة نحو 98 بالمئة من سكان المدن الوصول إلى مصادر مياه صالحة للشرب، بينما كانت النسبة أقل قليلاً في المجتمعات الريفية. واليوم، تضرّر أكثر من 50 بالمئة من البنية التحتية للمياه، وتسبب تضرّر البنية التحتية للصرف الصحي والنظافة العامة بتلويث جزء من المياه المتوفّرة. فضلاً عن دور الهدر واعتماد أساليب ريّ غير مستدامة، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا.
وأفاد رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، كريستوف مارتن، أن مرافق المياه الثمانية الرئيسية الصالحة للشرب في البلاد قد تضررت جرّاء الحرب.
ويشكل الحصول على مياه الشرب المأمونة تحديا يؤثر على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء سوريا، التي لديها الآن ما يصل إلى 40 في المائة من مياه الشرب أقل مما كانت عليه قبل عقد من الزمان، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وساهم الزلزال الذي ضرب البلاد في شباط/ فبراير 2023 في تضرّر البنية التحتية للمياه، وأثّر ذلك في قدرتها على تقديم الخدمات ونقل المياه للسكان.
استناداً إلى هذا الواقع، يلجأ غالبية السوريين للاعتماد على مصادر بديلة للمياه، وعلى رأسها مياه الصهاريج، ما يزيد من مشكلة حصولهم على مياه غير آمنة، وبأسعار مرتفعة. فتجاوز سعر صهريج المياه سعة 10 براميل الـ50 ألف ليرة صعوداً إلى نحو 80 ألف ليرة، بحسب المناطق.