لدي عادة يومية هي المشي صباحاً لمسافة تتجاوز السبعة كيلو مترات في شوارع القاهرة، ولأن ضجة السيارات والباعة تمنعني من الاستمتاع بهذا المشي اليومي فقد اعتدت على وضع سماعات صغيرة موصولة بجهازي المحمول أسمع من خلالها ما أحب من موسيقا وأغان، وتفصلني عن ضجيج الشارع إلى حد ما ولا تعيقني عن التركيز في فكرة ما خطرت لي لتكون نواة لنص شعري جديد أو بداية مقال من مقالتي شبه اليومية. بل يحدث العكس أحياناً، إذ توحي لي الموسيقا التي أسمعها بأفكار لا تتعلق بشحنتها العاطفية التي تغزوني فقط، ولا بالكينونة الفنية الإبداعية التي تميزها عن غيرها من نفس النوع الفني، هي أيضاً تستدعي شحنة كبيرة من الذاكرة بتفاصيل وأحداث تشابكت في حياتي معها لأستعيد ما وارته ذاكرتي لسبب من الأسباب. أمس مثلاً كنت أستمع أثناء المشي إلى حفلة زياد رحباني في قلعة دمشق التي جرت في عام 2008 ضمن فعاليات الاحتفال بدمشق عاصمة ثقافية عربية. تذكرت الحفلة بالكامل وتذكرت الموسيقيين والمغنين السوريين الشباب الذين شاركوا مع زياد بالعزف والغناء لعدة ليال؛ تذكرت أيضاً النشاط الكبير الذي كان يميز دمشق تلك السنة بفضل الجهد الذي بذلته الأمانة العامة للاحتفالية بإدارة المسرحية السورية المعروفة الدكتورة حنان قصاب حسن، ومجموعة كبيرة جداً من الشباب والصبايا السوريين من خريجي معهد الفنون المسرحية بقسميه وخريجي معهد الموسيقا وكليات الإعلام وكليات اللغات. كانت دمشق وقتها خلية نشاط وقدمت خلال العام ما يمكن الاعتزاز به فعلاً رغم كل الانتقادات المحلية التي سمعناها وقتها.
لكن السلبية الأكبر في تلك الاحتفالية والتي لم يتجرأ أحد على ذكرها وقتها هي أن الاحتفالية بأكملها كانت تحت إشراف أسماء الأسد (السيدة الأولى) التي كانت رئيسة الأمانة العامة للاحتفالية والتي تحوّلت مباشرة بعد 2008 إلى الأمانة العامة للتنمية بكل ما أحيط بهذه الأمانة من سمعة سيئة خلال سنوات ما بعد 2011، أي بعد انطلاقة الثورة السورية.
في 2008 لم يكن أحد بعد يمتلكه الشك في نوايا (السيد الرئيس وحرمه المصون)، كنا جميعاً مازلنا نرى فيهما صورة مختلفة إلي حد ما عن صورة الأسد الأب وزوجته الغائبة الحاضرة، كان الأسد الابن هو الرئيس الشاب الذي يقود سيارته بنفسه بدون مرافقة وتجلس زوجته في المقعد الأمامي بجانبه وفي الخلف يجلس أولادهم الصغار ويذهبون في نزهة في المدينة يختلطون بالناس ويتناولون الصبار الشهير في ساحة الطلياني؛ أو يتنقلون بين المحافظات يتغدون في مطاعم عامة ويزورون أنشطة ثقافية مدنية؛ مع محاولات كانت ناجحة لإخفاء السيطرة الأمنية والفساد الكبير والمحاصصة الواضحة وبيع الاقتصاد السوري لصالح تركيا، وأجمل المناطق السورية لبلاد الخليج. ذلك المشهد ومشاهد أخرى شبيهة به تنحاز للثقافة والحداثة والليبرالية في الفن والموسيقا، وتظهر عملية فصل بين الطبقة السياسية بقيادة الأسد الابن وزوجته وبين الحرس الأمني القديم الممتد منذ زمن الأسد الأب والذين استطاعوا أن يشكلوا ستارة قاتمة بين حقيقة النظام السوري (المتهم بقوة وقتها باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري والمنسحب بإذلال من لبنان) وبين مجموعة كبيرة من مختلف شرائح السوريين كانت ماتزال ترى بعض الأمل في الصورة والسيرة المقدمة عن (العائلة الرئاسية).
هل تلك الفسحة من الأمل هي التي جعلت أكثر من تسعة وتسعين في المائة من العاملين في الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة ثقافية ينخرطون بالثورة منذ لحظة انطلاقها؟ وأنا أستمع إلى حفلة زياد في قلعة دمشق قبل أيام تذكرت كل الشباب والصبايا الذين عملوا في الاحتفالية، وانتبهت أنهم جميعاً باتوا اليوم خارج سوريا، وأنهم جميعاً شاركوا في المظاهرات في بدايات الربيع العربي سواءً تضامناً مع الليبيين والمصريين أو حين وصلت الشرارة إلى سوريا فكانوا من أوائل المتظاهرين في شوارع دمشق وباقي المحافظات، ومن أوائل المبادرين إلى الخيار السلمي المدني النضالي في الثورة فهم الذين قاموا بابتكارات مذهلة في أول شهرين في الثورة، (نتذكر جميعاً طابات البينغ بونغ التي سقطت من جبل قاسيون إلى دمشق مكتوب عليها كلمة حرية، ونتذكر بحرات دمشق التي صبغت باللون الأحمر دلالة علي الدم السوري، ونتذكر صوت القاشوش الذي كان يصدح فجأة في الأسواق المزدحمة أو سلال رمضان التي وزعت على سكان الأحياء الراقية وفيها تسجيلات توثق الجرائم المرتكبة، ونتذكر فعاليات اللونين الأبيض والبنفسجي والمظاهرات الطائرة وغيرها الكثير جداً من هذه المبادرات المبتكرة والتي كان خلفها مجموعات شبابية شكل العاملون في الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة ثقافية جزءاً كبيراً منها) كما أن كثيراً منهم كانوا من أوائل المعتقلين من شوارع دمشق، كان اللافت وقتها أن هذه المجموعة من النشطاء المدنيين ينتمون إلى مختلف انتماءات السوريين قبل أن يصبح الانتماء إلى مذهب أو قومية أو دين تهمة يوجهها السوريون بعضهم ضد بعض.
ما الذي حدا بتلك المجموعة من الشباب والصبايا للمطالبة بالتغيير وهم الذين كانوا ينتمون إلى شريحة ذات دخل مرتفع، ويتمتعون بمزايا عديدة، تحول معظمهم بعد 2008 للعمل في الأمانة العامة للتنمية، أي كانوا مقربين إلى حد ما من أسماء الأسد وبعضهم كان مقرباً جداً منها؟ الحال إن الانفتاح الذي حدث بعد عام استلام بشار الأسد نتيجة ثورة الاتصالات ودخول الإنترنت إلى سوريا وبدء انتشار وسائل التواصل وانكشاف العالم أمام الجميع، جعل فئات من الشباب السوريين، خصوصاً من يعملون في مهن فنية وأدبية وفكرية تتيح لهم حرية في التفكير وبالتالي فهمٌ لضرورة الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية في بلد متعدد الطوائف والأعراق مثل سوريا، جعلتهم يحلمون بهذا التغيير وكانوا يعتقدون أن العائلة الرئاسية، التي لم يثبت كثيراً بعد، تورطها بجرائم أو فساد مباشر، سوف تلتفت إلى هذه التطلعات وتأخذها بعين الجد والجدية، ما سيغير في المجتمع السوري لصالح الحريات الكاملة والتطور الطبيعي المعافى لمجتمع مثل المجتمع السوري، لهذا لم يتوان أحد منهم عن الهتاف بمطلب الحرية في قلب شوارع دمشق وكلهم أمل أن ما حدث في درعا سوف يقابل بعقاب عسير وبخطاب رئاسي مبشر ومطمئن، لكن ما حدث من اعتماد الحل الأمني والخطاب البائس لبشار الأسد بعد أحداث درعا، حول الحلم لدى هؤلاء الشباب إلى غضب شديد نتيجة الخيبة التي شعروا بها. فكان الحل هو المزيد من الانخراط في العمل النضالي السلمي المدني والنشاط الثوري والانتساب لتنسيقيات ووضع خطط رؤيويه لمستقبل سوريا بالتعاون مع نخبة معارضة سياسية قديمة. لكن اعتقل الكثير منهم وتم تهديد آخرين، واستشهد البعض، في الوقت الذي بدأت تحولات الثورة تظهر لصالح التسليح والتطييف والأسلمة والخضوع لأجندات غير وطنية والتشبه بالسيناريو الليبي وبيع الثورة لصالح خطاب مفتت ومقسم للمجتمع الذي كان قد بدأ الانقسام أصلا نتيجة السلوك الأمني للنظام واستنفاره للعصبيات المذهبية. ما دفع الكثير من هؤلاء الشباب والصبايا من يمكن أن يطلق عليهم اسم (رعيل الثورة الأول) إلى الهرب من الملاحقة والاعتقال والموت بعد أن فقدوا أمكنتهم في الثورة وفقدوا القدرة على الفعل وصاروا ملاحقين من الجميع: النظام والثورة المضادة.
أعادتني حفلة زياد الرحباني في قلعة دمشق بأسى وحزن إلى تلك الأيام النادرة وإلى ذلك الحلم الجميل الذي عشناه ولو لوقت قليل جداً. الآن لم يتبق منه أي شيء، لم يتبق من سوريا التي كنا نعرفها أي شيء، لم يتبق من حاضرها سوى البؤس والقهر والذل ومن مستقبلها سوى الغموض أو المزيد من آل الأسد، أما الماضي فلم يعد غير دفقة ذاكرة تجتاح أحدنا لسبب من الأسباب فيعيد السردية من أولها كي لا يتم طمسها وإتلافها من قبل كل من يعادي الحرية بكل أنواعها.