خاص – الحسناء عدره/دمشق
أطفأ القاصر أحمد مده شمعته مبكراً وإلى الأبد قبل يومين فقط من موعد عيد ميلاده السادس عشر، بينما تولت والدته وسكان منطقته الاحتفال الجماعي بهذه المناسبة على طريقتهم الخاصة، إذ قاموا بتشييع جثمانه في بلدة جنديرس السورية الواقعة بريف مدينة عفرين شمال غربي البلاد. ووداعه ممدداً فوق وسادة كردية مزركشة بألوانٍ كثيفة بينها اللون القرمزي ربّما في دلالة لدمه المهدور.
وشيع المئات من سكان بلدة جنديرس، الخميس الماضي، جثمان الفتى الكردي أحمد مده الذي قُتل الأربعاء الماضي، على يد رجل سوري ينحدر من ريف محافظة إدلب ويدعى يامن إبراهيم، وكان يعمل لدى والد الضحية في مخبّزه الخاص.
وأثار مقتل الفتى البالغ من العمر 16 عاماً طعناً بالسكين، سخطاً شعبياً تزامن مع احتجاجات من السكان الأكراد في منطقة عفرين، التي سيطرت عليها تركيا في منتصف آذار/مارس من العام 2018 رفقة فصائل من “الجيش الوطني السوري” المدعوم منها بعد معاركٍ طاحنة مع المقاتلين الأكراد السوريين، والتي دامت 58 يوماً.
وكان القاتل يعمل في مخبزٍ تعود ملكيته لوالد الضحية. وقد أقدم على قتل الفتى انتقاماً من والده إثر خلاف بينهما اندلع قبل نحو أسبوعين ترك بسببه العمل.
وبعد أيام من مقتل القاصر الكردي، أقدم مجهولون، السبت الماضي، على الاعتداء على فتى كردي آخر بالأسلحة البيضاء، ما تسبب بإصابته بعدة طعنات في جسده.
وذكرت مصادر محلية لـ”963+”، أن “مجموعة مجهولين ملثمين أقدموا على محاولة قتل فتى كردي يدعى رودي محمد جقل البالغ 16 عاماً، بعد الهجوم عليه بالسكاكين” في مركز مدينة عفرين.
وأضافت المصادر أنه “لولا تدخل الجيران لقُتِل هذا الفتى أيضاً، قبل أن يتم نقله إلى المشفى لتلقي العلاج”، موضحين أن “الفتى طريح الفراش في المنزل”.
ليلة “الدماء” بدل “النار”
وتزامنت الحادثتان مع اقتراب عيد “النوروز” (العيد القومي للأكراد)، إذ أعادتا إلى الأذهان، حادثة مقتل شبانٍ أكراد برصاص مسلحين في بلدة جنديرس. ففي 20 آذار/ مارس 2023، تحولت “ليلة النار” التي اعتاد الأكراد الاحتفال بها وتسبق عيد “النوروز” إلى ليلة غارقة بدماء أربعة شبان من عائلة بيشمرك قتلوا على يد عناصر من “جيش الشرقية” التابع لـ “الجيش الوطني السوري” لإشعالهم النار احتفالاً برأس السنة الكردية.
إثر هذه الحادثة وغيرها من الانتهاكات المتكررة، حمّل نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش” آدم كوغل أواخر الشهر الماضي “تركيا مسؤولية الانتهاكات المرتكبة على يد الفصائل المدعومة منها، لأنها سمحت لهؤلاء المقاتلين بالاعتداء على الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرتها دون عقاب، وهذا يعرضها للتواطؤ في هذه الانتهاكات”.
وتعليقاً على مقتل الفتى الكردي ومحاولة قتل آخر، قال رئيس مجلس إدارة المنظمة العربية لحقوق الإنسان في سوريا محمود مرعي، لـ”963+”، إن “توقيت القيام بهذه الانتهاكات التي تتزامن مع حلول الذكرى السنوية لدخول تركيا إلى عفرين والتي تتزامن أيضاً مع السنوية الأولى لحادثة عيد النوروز العام الماضي، يؤكد المساعي التركية للتوسع على حساب السوريين، وما هو إلا تصعيد لحالة الصراع التركي – الكردي”.
وتتكرر مثل هذه الجرائم في مدينة عفرين منذ سيطرة تركيا وفصائل “الجيش الوطني” عليها في 18 مارس من عام 2018، وهو ما أدى لتهجير أكثر من 300 ألف من سكان المنطقة الأصليين، وفق بيانات الأمم المتحدة.
ويرى مرعي أن “ما تقوم به تركيا من تهجير لأهالي عفرين واستبدالهم بسكان جدد وقطع الأشجار والاعتداء على حياة المدنيين، هي جرائم ضد الإنسانية”، مشدداً على أن “هناك مخطط تركي للسيطرة الدائمة على المنطقة بعمق 30 كم على طول الحدود السورية – التركية”.
إدانات من منظمات دولية وأممية
أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريراً بتاريخ 29 شباط/ فبراير 2024، حمَّلت فيه تركيا “مسؤولية انتهاكات جسيمة في المناطق الخاضعة لسيطرتها سواء مباشرة أو عبر فصائل مسلحة مرتبطة بها في شمال سوريا”. كما وصفت تواجدها العسكري هناك بـ “الاحتلال”.
وشدد التقرير على أن “المسؤولين الأتراك ليسوا مجرد متفرجين على الانتهاكات، بل يتحملون المسؤولية” على اعتبارهم السلطة المسيطرة، “وفي بعض الحالات كانوا متورطين مباشرة في جرائم حرب مفترضة في ما تسميه تركيا منطقة آمنة”، بحسب تعبير المنظمة.
اعتداء جنسي وقتل ممنهج
كما تطرق التقرير الصادر عن المنظمة إلى وجود نساء كرديات محتجزات تعرضن للعنف الجنسي، بما فيه الاغتصاب، إلى جانب احتجاز أطفال لا تتجاوز أعمارهم ستة أشهر مع أمهاتهم.
ويتكرر مشهد إراقة دماء المدنيين في عفرين يومياً وسط تقاعس منظمات حقوق الإنسان، فيما يواجه السكان مصير الاعتقال والاختفاء والخطف وجرائم القتل دون محاسبة مرتكبيها والتنكيل والتهجير القسري ضمن استهداف ممنهج.
وفي سياق الانتهاكات المتواصلة، وثقت “لجنة التحقيق المستقلة بشأن سوريا” الجرائم المرتكبة منذ بداية سيطرة تركيا وفصائل المعارضة الموالية لها على عفرين، ولغاية تاريخ اليوم، “خطف أكثر من (9065) شخص بينهم أكثر من (1000) امرأة، مقتل أكثر من (783) شخص بينهم (95) قضوا تحت التعذيب، (10) حالات انتحار لنساء و(74) حالة اعتداء جنسي”.
اقتلاع الجذور التاريخية
لم تقتصر الانتهاكات على السكان المدنيين فحسب، بل ذهبت إلى اقتلاع الذاكرة الأثرية الجماعية التي يصل عمرها لآلاف السنين عبر قيام تركيا والفصائل الموالية لها، بمحو المعالم الأثرية لمدينة عفرين والسطو على اللقى الأثرية، فبحسب لجنة التحقيق المستقلة، دمرت أكثر من (75) تل أثري وأكثر من (59) موقعاً، كما عملت على طمس التاريخ الديني للمنطقة وتجريف قرابة (28) مزار ديني وتحويله إلى سوق للماشية، لاسيما بعد أن تم إدراج مزار النبي “هوري” الذي يعتبر أشهر مزارات شمالي سوريا على لوائح “اليونسكو” للتراث العالمي.
كذلك لاقت الثروة الشجرية مصير الإبادة ذاته وذلك في إطار إلحاقها الضرر بالموارد الطبيعية والاستيلاء على مصادر رزق المزارعين، خاصة أن الإنتاج السنوي من زيت الزيتون يصل حوالي 270 ألف طن يعتاش منه الغالبية من السكان، حيث قامت الفصائل التابعة لتركيا بقطع أكثر من (400) ألف شجرة مثمرة وحراجية وحرق أكثر من (15) ألف شجرة مثمرة وتفكيك حوالي (108) مصنع زيت زيتون ونقله إلى تركيا، إلى جانب إضرام النيران بأكثر من ثلث المساحة المخصصة للزراعة.
تحول ديموغرافي
في بداية عام 2018 وصل عدد الأكراد في عفرين إلى 96 في المئة، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 30 مع دخول القوات التركية والفصائل التابعة لها، جرّاء ممارسة تركيا سياسة التغيير الديموغرافي في التركيبة السكانية لمنطقة عفرين عبر بناء المزيد من المستوطنات للمستقدمين من مناطق سوريّة مختلفة وتقليص نسبة الأكراد والسكان الأصليين بالمدينة ليحل محلهم سكان عرب وتركمان، وفق إحصائية لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” تشير لبناء أكثر من (30) مستوطنة ومخيم في مناطق عفرين وذلك بنسبة تصل إلى 75 في المئة.
في مارس 2023، تم بناء مستوطنة جديدة في قرية “كفروم” أطلق عليها اسم “أهل الخير” وتأسست من قبل المنظمة الدولية للتنمية الاجتماعية والدعم الإنساني، ومقرها الرئيسي في تركيا على أن تضم سكانا من المكونين العربي والتركماني بحجة إيواء المتضررين من زلزال 6 شباط/ فبراير العام الماضي.
كما غيرت تركيا اسم ساحة “آزادي” (تعني “الحرية باللغة الكردية)، المركزية في عفرين إلى ساحة “أتاتورك”. وتم تحويل120 مدرسة كردية إلى منشآتٍ عسكرية في إطار استئصال اللغة الكردية.
الإيزيديون والعلويون
على غرار ما حصل في مجزرة “شنكال” في سهول نينوى بحق الطائفة الإيزيدية، يتكرر المشهد ذاته منذ ستة سنوات في عفرين. إذ ارتكبت الفصائل المسلحة الموالية لتركيا انتهاكات عديدة بحق الإيزيديين الذين وصل عددهم إلى 15 في المئة نتيجة التهجير القسري والاستهزاء بديانتهم وإجبارهم على اعتناق الإسلام وإرغام النساء على ارتداء الحجاب وهدم المراقد الدينية الخاصة بهم والتي وصل عددها إلى 19 مزار إيزيدي متوزع على مختلف قرى ونواحي عفرين، ونهب أكبر مزار إيزيدي في سوريا الواقع على قمة جبل الشيخ بركات، والمشرف على بلدة دارة عزة، إذ جعلت منه تركيا مركزاً للمراقبة بعد أن أزالت عنه المعالم الإيزيدية وصبغته بصبغة إسلامية بحتة.
وينضم الأكراد العلويون المتواجدون في قرية “معبطلي” التابعة لمدينة عفرين إلى لائحة المستهدفين على الخارطة العرقية، إذ بلغ عددهم 14 ألفا في 2010، لكن بعد الهجوم التركي والفصائل المسلحة المدعومة من أنقرة، تراجع عددهم إلى 8 آلاف شخص.
وتتبع مدينة عفرين الكردية العديد من البلدات الكبيرة، أبرزها: الشيخ حديد، بلبل، جنديرس، راجو، معبطلي، وشران. كما تتبع لهذه البلدات مئات القرى المتناثرة في جغرافيا تبلغ مساحتها أقل من 4 آلاف كيلومتر مربع، لتغطّي نحو 2 في المائة من مساحة سوريا. وقبل عام 2011، كانت تضم نحو 500 ألف. وتعد عفرين التابعة إدارياً لمحافظة حلب، من التجمعات السكانية الكبيرة للأكراد السوريين. وكانت ثالث كانتون لدى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا قبل أن تسيطر عليها تركيا قبل نحو 6 سنوات.